ما تعلمته بخصوص جرائم أصحاب الياقات البيضاء

4 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

عندما بدأت بممارسة مهنة المحاماة في سبعينيات القرن الماضي، لم تكن جرائم أصحاب الياقات البيضاء تحظى باهتمام كبير خارج أروقة مكتبي القديم، وهو مكتب الادعاء العام الأميركي للمقاطعة الجنوبية في نيويورك. كان المدعون العامون يُبدون اهتماماً أكبر بجرائم القتل، وأمراء تجارة المخدرات، وعصابات الشوارع. ولم تكن الجرائم المالية تعتبر خطرة جداً أو مهمة بالنسبة لمعظم المدعين العامّين. لكن هذا الوضع تغيّر لأسباب متنوعة.

خلال السنوات الثلاثين المنصرمة، شهدناً عدداً كبيراً من المحاكمات لجرائم أصحاب الياقات البيضاء، وهي أثبتت لنا أن الردع ناجع حقاً. فعلى سبيل المثال، بات الناس في وول ستريت يولون قدراً كبيراً من الاهتمام للطريقة التي يتعامل بها المدعون العامّون مع حالات التجارة من الداخل التي يقوم بها أصحاب الياقات البيضاء. فهم يقولون: “يا إلهي. هناك شخص مثلي تماماً دخل السجن لفترة طويلة من الزمن”. وليس هناك رادع أكبر من حكم بالحبس. معظم المدَعى عليهم من أصحاب الياقات البيضاء ينعمون بحيوات طيبة، ويقدرون حريتهم. ومحاربة هذه الجرائم في المحاكم وحث القضاة على إرسال المجرمين من أصحاب الياقات البيضاء إلى السجن يؤدي إلى تغيير حقيقي في سلوك الناس. وبصفتي مدعية عامّة، فإنني أعطيت الأولوية لجرائم أصحاب الياقات البيضاء وساعدت في توعية الناس بعواقب تجاوز القانون.

كما توليت أعمال الدفاع في الكثير من الحالات، ما منحني فرصة الاطلاع على دوافع أصحاب الياقات البيضاء المتهمين بارتكاب جرائم. كمدع عامٍ، أنت تميل إلى النأي بنفسك إلى أبعد مسافة ممكنة عن المتهمين المشتبه فيهم، ولكن عندما تتولى مسؤولية الدفاع عنهم، ينتهي بك المطاف وقد حاولت استكشاف دوافعهم بطريقة حميمية للغاية.

فلماذا يرتكبون هذه الجرائم؟ يعود الأمر جزئياً إلى أن جرائم أصحاب الياقات البيضاء لا تقود إلى مشاعر عميقة بالإثم مشابهة للمشاعر الناجمة، مثلاً، عن الهجوم على شخص، وهو ما يتسبّب بأذى ملموس وكبير لذلك الشخص. وبعض هذه الجرائم، يُنظر إليها على أنها “بلا ضحايا”، رغم أن ذلك ليس صحيحاً في الواقع. ويعود جزء من الدافع، بطبيعة الحال، إلى الجشع، لكن الأمر أكثر من ذلك بكثير. فالجزء الذي يقلل عامة الناس من شأنه هو الأنا الأعلى. فالعديد من الأشخاص الذين يرتكبون هذه الجرائم كانوا ناجحين ولا يريدون الفشل. وغالباً ما تكون الأسواق قد انقلبت ضدهم، لكنهم لا يزالون يحتاجون أن يراهم الآخرون على أنهم ناجحين. غالباً ما يكون هناك دافع مالي، ولكن في قطاع بالغ الحساسية والتوتر وتوجد إغراءات، يجب أن تأخذ الطبيعة البشرية والحاجة إلى بلوغ المكانة وإدراك النجاح المستمر بعين الاعتبار أيضاً.

عندما أجري تحقيقاً في شركة شهدت زلة أخلاقية أو قانونية – وأنا أعكف على الكثير من هذا العمل حالياً – فأنا لا أحاول كشف النقاب عمّا حصل فقط، وإنما يتمثل جزء أساسي من العملية في تقديم توصيات بخصوص كيفية الحيلولة دون ارتكاب الأخطاء في المستقبل. وتعتبر برامج الامتثال للقواعد مهمة، لكن الأهم حقاً هو الثقافة والجو اللذين يرسخهما القائد في المؤسسة – وغالباً ما يكون ذلك طريقة أكثر فاعلية لزيادة احتمالات عدم حصول الزلات مجدداً.

في أعقاب حدوث فضيحة، سيزعم بعض القادة أنهم لم يكونوا يعلمون ما الذي كان يجري. وفي بعض الأحيان يكون ذلك صحيحاً. ولكن عندما يكون صحيحاً، يجب عليك أن تسأل ما إذا كان القائد قد بنى نظاماً للتواصل كان مصمّماً لنقل الأخبار السيئة إلى مستواه، أو ما إذا كان النظام مصمّماً أصلاً لعزل القيادة عن محيطها. كل شركة لديها خطوط ساخنة للأشخاص الذين يدقّون ناقوس الخطر ويبلغون عن المخالفات؛ وبعضها فقط يصل مباشرة إلى لجنة الفحص في مجلس الإدارة أو إلى مكتب الرئيس التنفيذي. في هذه الأنظمة، التي يسعى أكبر القادة فيها سعياً حثيثاً لسماع الشكاوى والمزاعم، تكون ثقافة الامتثال للقواعد أقوى بكثير. في المقابل، تبدو بعض الخطوط الساخنة وكأنها مصمّمة لمنح القادة إمكانية منطقية للإنكار، فلسان حالهم يقول: “لدينا نظام للإبلاغ عن الشكاوى، ولم نر الكثير منها”. وهنا يجب على القادة أن يسألوا أنفسهم: “ما هو السبب وراء ذلك؟ هل الموظفون يخافون من الإبلاغ خشية تعرّضهم للانتقام؟”

أكبر خطأ ترتكبه الشركات في محاولتها الحيلولة دون اقتراف الجرائم أو قوع سوء السلوك هو تعزيز الامتثال للقواعد بالاكتفاء بتخصيص المزيد من الموارد له. فهي تؤمن أن كل دولار إضافي تنفقه له التأثير المتزايد ذاته. وهذا غير صحيح. فتحديداً عندما تتعامل مع الخروقات المحتملة لقانون الممارسات الأجنبية الفاسدة (الذي يستهدف الرشوة) أو قانون السرية المصرفية (الذي يركز على غسيل الأموال)، أنت بحاجة إلى استعمال أسلوب جراحي دقيق وذكي لمواجهة أكبر مكامن الخطر. ويصح هذا الأمر تحديداً في المؤسسات العالمية – فالمشاكل غالباً ما تظهر إلى السطح في الأماكن البعيدة عن المكاتب الرئيسة، أو في الشركات التابعة في الخارج، أو لدى الشركاء في المشاريع المشتركة.

تعود الوقاية بمعظمها إلى الثقافة. فإذا ما كنت قائداً جديداً في مؤسسة ما، فإن نصيحتي لك هي أن تدع الناس يتعرفون عليك وعلى قيمك. دعهم يعرفون كم أنت جاد في فعل الشيء الصائب. أوضح لهم أنهم إذا رأوا شخصاً يفعل شيئاً خاطئاً، فإنهم يجب أن يبلغوا عن ذلك الفعل، لأنهم بذلك يقدمون الدعم لجميع الموظفين في المؤسسة. وعندما يضلّ أحدهم سواء السبيل، فإن ذلك يطغى على الشركة بأكملها، ولا يمكن للموظفين أن يدعوا ذلك يحصل. هذه هي الرسالة التي يحتاج القادة إلى إيصالها – وهذه هي الطريقة التي يجب أن يتصرفوا بها أيضاً.

إحدى العلامات الواضحة على الثقافة الأخلاقية هي تطبيق سياسة عدم التسامح المطلق مع ارتكاب الأخطاء. فالعديد من الشركات تزعم أن لديها هكذا ثقافة، ولكن عندما يكسر أصحاب الكفاءات العليا أو كبار الموظفين القواعد، فإن القادة قد يتساهلون معهم، إما لأسباب تجارية أو بدافع الولاء. وهذا يقوض كل شيء. ليس بوسعك الاعتماد على الامتثال للقواعد وعمليات الفحص فحسب؛ بل يجب أن تكون مستعداً لمعاقبة الناس الذين يرتكبون التجاوزات. وإذا ما أردت بناء ثقافة أخلاقية، ليس لديك خيار سوى الوفاء بوعودك بعدم التسامح مع اقتراف الأخطاء. لا تكن صاحب أقوال فقط، بل ترجم أقوالك إلى أفعال.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .