لم يعد مراقبو شركات التكنولوجيا يعتبرون شركة مايكروسوفت “ظاهرة القرن العشرين” منذ سنوات، لاكتفائها باحتكار نظام التشغيل “ويندوز”. لم تطلق شركة التكنولوجيا العملاقة أي ابتكار ثوري منذ عقود، على الرغم من أنها كانت غنية بما يكفي لتلحق بمنافسيها بسرعة، ولكنها كانت كبيرة وبيروقراطية لدرجة تمنعها من ريادة أي سوق. ومن المعروف أن جيف بيزوس يهتم بالشركات والأسواق الآسيوية ويحذّر زملاءه في أمازون من القناعة بما حققوه مثل جارتهم في سياتل.

ولكن في 7 فبراير/شباط، أخبر الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، ساتيا ناديلا، المراسلين أن الذكاء الاصطناعي يبدأ “حقبة جديدة من البحث”، فمحرك البحث بينغ (Bing) من مايكروسوفت (الذي واجه انتقادات كثيرة) يدمج تكنولوجيا “تشات جي بي تي” (ChatGPT) من شركة أوبن أيه آي لتوفير المعلومات للمستخدمين مباشرة، وليس الروابط فقط. وبذلك، تتحدى بصورة مباشرة شركة جوجل (بطلة مجال البحث بلا منازع) من خلال محاولة التفوق على ابتكاراتها على أرضها.

لم يكن من المفترض أن يحدث هذا لشركة جوجل تحديداً، فبعد خسارتها الساحقة أمام أمازون حين أطلقت المساعد الصوتي القائم على الذكاء الاصطناعي، أليكسا، في عام 2014، أعلنت في عام 2016 أنها ستصبح شركة “تضع الذكاء الاصطناعي في المقام الأول”.

من المؤكد أن مشكلة جوجل لا تتعلق بالهندسة؛ فقد أحرزت الشركة تقدماً كبيراً في مجال الذكاء الاصطناعي. وبصرف النظر عن العرض التجريبي السيئ والمكلف الذي قدمته جوجل في وقت سابق من هذا الشهر، يمكن القول إن روبوت الدردشة لامدا (LaMDA) الذي أطلقته كان بنفس جودة إصدار تشات جي بي تي 3 (ChatGPT3) الذي اكتسب شهرة كبيرة حول العالم. كما أنها أرست أسس البحث المدعوم بروبوتات الدردشة قبل الأسبوع الماضي.

من المعروف أن النجاح والتحول في مجال التكنولوجيا الفائقة يتعلقان بالثقافة أكثر من التكنولوجيا، ويبدو أن القرارات الإدارية التي اتخذتها كل شركة هي التي أحدثت فارقاً. يقول البعض إن مكانة جوجل الرائدة أجبرتها على التحرك بحذر للحد من خطابات الكراهية والمعلومات المضللة، ويثني آخرون على الرئيس التنفيذي للتكنولوجيا في مايكروسوفت منذ عام 2017، كيفن سكوت، الذي انضم إلى الشركة مع عملية الاستحواذ على لينكد إن، وأقام شراكة مع أوبن أيه آي بعد ذلك بعام، وبذل جهوداً كبيرة لتطوير التكنولوجيا داخل مايكروسوفت.

يجدر أخذ هذه التفسيرات بالاعتبار، لكنها ليست عميقة بما يكفي. فكيف تمكنت مايكروسوفت الراسخة، العالقة في مرحلة التراجع البطيء، من استجماع قوتها للقيام بقفزة كبيرة جعلتها في الصدارة؟ كما سيخبرك أي خبير في شركة، لا يمكن لأي شخص، بغض النظر عن مدى موهبته، إجراء تحول في مؤسسة دون تغيير ثقافتها.

اللحظة الوجودية لمايكروسوفت

أنجزت أنا وفريقي مؤخراً مشروعاً بحثياً استمر لسنوات لفهم “الابتكار المستمر” على نحو أفضل. أردنا أن نعرف ما الذي يدفع الشركات إلى الاستمرار في الابتكار حتى بعد نجاحاتها الأولية. للإجابة عن هذا السؤال، استطلعنا آراء 6,873 مسؤولاً تنفيذياً وأكاديمياً ومستهلِكاً من جميع أنحاء العالم، وضيقنا نطاق قاعدة بيانات الشركات إلى 26 شركة تم تقسيمها إلى شركات ذات مستويات عالية ومتوسطة ومنخفضة من المرونة والابتكار. استكشفنا أداءها وفقاً لقائمة طويلة من السمات، وشمل ذلك إجراء مقابلات مع عشرات المدراء والمسؤولين التنفيذيين وموظفي الخطوط الأمامية والموظفين السابقين، وقمنا بتشفير البيانات.

من خلال هذه الجهود، توصلنا إلى العديد من الشركات التي يبدو أنها توصلت إلى سرّ الابتكار المستمر. كان بعضها متوقَّعاً: آبل وأمازون وتيسلا. لكن القائمة تضمنت بعض المفاجآت: وبالتحديد، وجود مايكروسوفت ضمن القائمة، على عكس جوجل/ألفابت.

أعمل في وادي السيليكون منذ التسعينيات، وكان وجود مايكروسوفت مفاجئاً إلى حد ما. ولكن عند إلقاء نظرة فاحصة، وجدنا أن شيئاً رائعاً قد حدث فيها: تحول ثقافي أدى إلى التخلي عن التمسك بالإنجازات الحالية (الدفاع) والانخراط في المنافسة وإطلاق الابتكارات الجديدة (الهجوم).

بدأت هذه العملية مع تولي ناديلا زمام السلطة في عام 2014، عندما اختاره مجلس إدارة مايكروسوفت ليحل محل ستيف بالمر الذي تقاعد من منصب الرئيس التنفيذي. في ذلك الوقت، كان ناديلا رئيساً لقسم الحوسبة السحابية السريع النمو في الشركة، وبدا من غير المرجح أن تؤدي ترقيته إلى تغيير مسار الشركة العملاقة التي تتقدم بتثاقل. لكن ناديلا ومجلس الإدارة سئموا من رؤية الشركة التي كانت ذات مرة رائدة في عالم التكنولوجيا تتخلف عن الركب، وأعلن أن الوقت قد حان “لإعادة اكتشاف روح مايكروسوفت، أو سبب وجودها”.

لم يكن هذا مجرد تغيير آخر في غاية الشركة؛ فقد تعامل ناديلا مع الأمر على أنه لحظة وجودية. فبعد أن حققت الشركة لفترة طويلة هدفها المتمثل في “أن يعمل كل جهاز كمبيوتر، على كل مكتب وفي كل منزل، ببرامج مايكروسوفت”، كانت بحاجة إلى هدف جديد لإلهام العدد الكبير من مبرمجيها ومهندسيها، والحفاظ على ربحيتها. وقد تمكن ناديلا، مع زملائه، من إعادة توجيه الشركة نحو “تمكين كل شخص ومؤسسة على هذا الكوكب من تحقيق المزيد”.

اقترنت عملية إعادة التوجيه هذه بإجراء تحول استراتيجي. بدلاً من أن تحمي مايكروسوفت أصولها (الدفاع)، اتجهت إلى (الهجوم) من خلال التخلي عن الاستثمارات الكبيرة في التكنولوجيا الحالية واغتنام أي فرصة تلوح في الأفق.

كان التغيير الأبرز على الصعيد الخارجي، إذ كانت الشركة ترفض إقامة الشراكات منذ عقود، بعد أن حققت بإصرارها في الثمانينيات على امتلاك نظام التشغيل “دوس” (DOS) ومنصات برمجية أخرى أرباحاً كبيرة وأمّنت مصادر إيرادات سخية. ولكن كي تفي بالتزامها “الوجودي” الجديد، كان عليها الجمع بين أصولها الهائلة (النقدية والمواهب الهندسية) وأصول الشركات الأخرى، من خلال الانفتاح على منصات أخرى والاستثمار في الشراكات.

واتخذ ذلك شكلين بارزين؛ أولاً، اعتمدت مايكروسوفت أنظمة تشغيل منافِسة مثل لينوكس (Linux) وآي أو إس (iOS)، ودعمت أجهزة الواقع الافتراضي التابعة لشركات الأخرى، وثانياً، لإدراكها ما تتمتع به الشركات الناشئة من مرونة في ريادة الأعمال، بدأت الاستثمار في سلسلة من الشركات الصغيرة التي تتصدر مجال التكنولوجيا. كان لدى ناديلا أيضاً الشجاعة لترقية الموهوبين الذين انضموا إلى الشركة من سلسلة من عمليات الاستحواذ التي قامت بها، ومن بينهم كيفن سكوت. وكما أشرت في هارفارد بزنس ريفيو في عام 1999، يكون الموظفون أحياناً أكبر قيمة تحصل عليها في عمليات الاستحواذ في مجال التكنولوجيا الفائقة.

التفكير بعقلية الشركة الناشئة

على الرغم من الحجم الهائل لمايكروسوفت، تضمّن التحول الثقافي التحلي بالعديد من سمات الشركات الناشئة، ومن بينها “الهوس بالعملاء”. باعت الشركة عدداً كبيراً من منتجات البرمجيات، معظمها متصل بالإنترنت بطرق مختلفة. وبدلاً من الاعتماد على المبيعات (التي تُعد مؤشراً لا يواكب الأسواق السريعة الحركة) أو على ما يقوله العملاء حتى، طلب ناديلا من مطوري البرمجيات التركيز على ما يستخدمه الناس فعلياً. ولذلك أعدُّوا لوحات معلومات للتعرف على طبيعة الاستخدام خلال الشهر السابق، للحصول على معلومات محدّثة عن وضع السوق.

علاوة على ذلك، فرّغت الشركة أوقات أصحاب المواهب الهندسية ليتمكنوا من استكشاف فرص جديدة. ذكر ناديلا في كتابه عن التغيير: “جاؤوا إلى مايكروسوفت بأحلام كبيرة، لكنهم شعروا أن كل ما كانوا يفعلونه هو التعامل مع الإدارة العليا، وتنفيذ عمليات مرهِقة والجدال في الاجتماعات”. لذلك قللت الشركة التسلسلات الهرمية وأعفت المهندسين من معظم الضوابط المؤسسية، ومنها القواعد المتعلقة بالاتصال بأشخاص عبر مختلف المستويات للحصول على إجابات عن مشكلة معينة. وبالتالي “أصبح بإمكان المهندسين التركيز أكثر على منتجات مايكروسوفت، بدلاً من خوض معارك يومية”، وبمشاركتهم تمكنت الشركة من التعامل مع الفرص والتهديدات المفاجئة على نحو أفضل.

حتى إن مايكروسوفت قامت برعاية ما أسمته أكبر ماراثون برمجة (هاكاثون) خاص في العالم، حيث عمل مهندسو الشركة معاً على جميع أنواع المشاريع التي كانوا يحلمون بالعمل عليها. اجتذب هذا الحدث السنوي أكثر من 10 آلاف شخص من مئات المدن، وكان يستمر كل مرة بضعة أيام فقط، لكنه ساعد على بناء علاقات بين وحدات العمل المنفصلة التي استمرت في العمل على المشاريع التجارية، ما أدى إلى حل المشكلات من خلال التعاون السريع. بهذه الطرق، فكّرت شركة مايكروسوفت بعقلية شركة ناشئة، لا بعقلية شركة عملاقة تتقدم بتثاقل وحرص.

الالتزام بالتغيير

عملية التحول المؤسسي مليئة بالفوضى في الواقع، وكان على ناديلا والقادة الآخرين بذل جهد كبير للتقدم فيها؛ اعتاد المدراء على “إقطاعاتهم الصغيرة”: عوالم لطيفة ومنظمة تحقق أرباحاً كبيرة بما يكفي وتحديات تقنية يشارك فيها الجميع باستثناء المواهب الأكثر طموحاً. وكان نظام “التقييم والتسريح” (stack ranking) السيئ السمعة سائداً، حيث يقيِّم المدراء الموظفين ويمنحونهم درجات وفق “منحنى جرسي”، ولكل درجة عدد محدد من الموظفين. كانت لدى الشركة ثقافة متغطرسة تتمثل في “إما نحن وإما هم” و”عدم الاهتمام بمشاعر الآخرين”، ولم تعد هذه الثقافة تخدم غايتها.

لاستعادة الجرأة التي تتسم بها الشركات الناشئة والالتزام بالرؤية الجديدة، أعلن ناديلا أن مايكروسوفت ستقوم بما يعادل “حرق السفن بعد وصولها إلى شاطئ جديد” (بمعنى ألا مجال للتراجع): إذ لن تقوم الشركة بعد الآن بتحديث نظام التشغيل ويندوز الذي كان مركزياً، لأنه فقد شعبيته، كما ألغى ناديلا الاستثمار البالغ 7 مليارات دولار في صفقة الهواتف الذكية بالتعاون مع شركة نوكيا والقائم على مفهوم “المنتج المشابه” (Me Too Product)، ما أتاح لهؤلاء المهندسين العمل على مشاريع جديدة، وأوقف العمل بنظام “التقييم والتسريح”.

ثم أجرت الشركة سلسلة من عمليات الاستحواذ لفتح الأسواق. وبدلاً من عقد صفقات “المنتجات المشابهة”، مثل صفقة الهواتف الذكية مع نوكيا، اشترت الشركة منتجات رائدة في فئتها لتطويرها: منصة التواصل الاجتماعي في المجال المهني لينكد إن مقابل 26 مليار دولار، ومنصة مطوري البرمجيات غيت هاب (GitHub) مقابل 7 مليارات دولار، ثم الصفقة الضخمة التي استحوذت فيها على الشركة المطورة لألعاب الفيديو أكتيفجن بليزارد (Activision Blizzard) مقابل 68 مليار دولار.

أوضحت هذه الخطوات جميعها أن الخيار الوحيد هو المضي قدماً، وأدرك الموظفون أن عليهم النجاح في تطبيق النهج الجديد كي لا تقل أرباح الشركة.

بدأت اللعبة

في هذه الأثناء، حاصر الخوف شركة جوجل؛ فبعد أن أصبحت شركة تكنولوجية عملاقة في نظر الجمهور، كانت حذرة من المخاوف بشأن “الذكاء الاصطناعي الواعي” (sentient AI) وهجمات مكافحة الاحتكار (من ناحية أخرى، عادت مايكروسوفت إلى المنافسة، إذ مضت قدماً في صفقة للاستحواذ على شركة أكتيفجن على الرغم من التدقيق المتعلق بمكافحة الاحتكار.) أعرب قادة جوجل أيضاً عن قلقهم بشأن منافسة منتجاتها الأخرى لإيرادات البحث الحالية، إذ كانوا يعطون الأولوية للهواتف المحمولة والحوسبة السحابية والأجهزة على حساب البحث، وقد أصبحت مصدراً جيداً للإيرادات، وحتى في الوقت الذي ضخت فيه جوجل استثمارات كبيرة في الذكاء الاصطناعي، كانت تتجنب المخاطرة وتتمسك بموقفها الدفاعي.

كل ذلك مهّد الطريق لصدمة مايكروسوفت المفاجئة في وقت سابق من هذا الشهر. لا يزال بإمكان جوجل التفوق بمرور الوقت، ولكن ثمة منافسة حقيقية الآن، وسيتعين عليها إجراء تغيير ثقافي مماثل لما أجرته مايكروسوفت.

تُعد قصة إحياء مايكروسوفت استثنائية في إحياء ثقافة الابتكار، ولكن يمكن لأي شركة إجراء تحول مماثل. يعتمد القيام بذلك على عدة خطوات، ولكن الأهم هو حشد الموظفين حول رؤية “وجودية”، وتعزيز الانفتاح والتركيز على السوق كالشركات الناشئة، ثم التحرك بجرأة لخلق زخم مؤسسي. لا يلزم أن تكون شركتك تكنولوجية للقيام بذلك، فقد رأينا عمليات تحول مماثلة في قطاعات مثل البيع بالتجزئة والتصنيع، ولكن عليك أن تقرر اتباع خطة هجومية، مع الالتزام والتفكير بعقلية الشركة الناشئة واتخاذ إجراءات جريئة.