تقرير خاص

كيف استطاعت السعودية تغيير سوق العمل من خلال برامج التوطين؟

5 دقائق
توطين الوظائف
shutterstock.com/Robert Kneschke
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

شهد سوق العمل العالمي تغيرات غير متوقعة خلال العقود القليلة الأخيرة، من ناحية نوعية الوظائف المتاحة، والتغير السريع في المهارات المطلوبة، علاوة على ظهور الثورة الصناعية الرابعة التي أثارت قلقاً في نفوس الكثيرين خوفاً من استبدالهم على أيدي الآلات. أمّا بالنسبة لسوق العمل السعودي، فهو إضافة إلى التحديات السابقة؛ يعاني من ارتفاع العمالة غير السعودية غير الماهرة التي تؤثر سلبياً في الإنتاجية، كما تستهدف المملكة خفض نسبة بطالة السعوديين من 11% إلى 7% بحلول عام 2030 ما يتطلب خلق وظائف نوعية وعالية الإنتاجية.

وقد جرى الحديث عن ضرورة توطين الوظائف في المملكة منذ سبعينيات القرن الماضي، وتسارعت الحاجة لوجود خطط ومستهدفات طموحة مع مطلع العقد الثاني من هذا القرن، إذ شهد العقد الأخير تغيرات مهمة في سوق العمل السعودي من خلال إطلاق عددٍ من البرامج الداعمة لمبادرات التحول الاستراتيجي لوزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، والتعديلات التشريعية والتنظيمية، تبعها إطلاق رؤية 2030 التي وضعت ضمن مستهدفاتها توطين الوظائف.

كانت البداية مع إطلاق البرنامج الوطني لتحفيز المنشآت لتوطين الوظائف “نطاقات” عام 2011، المتميز بديناميكية عالية متوائمة مع متغيرات سوق العمل، والذي استمر في تطوير أنظمته وآلياته مع مرور الوقت، كان من أهم أوجه هذا التطوير الربط التقني مع الجهات الحكومية ذات العلاقة من بينها المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، حيث ساهم هذ الربط في رفع جودة بيانات البرنامج، بالإضافة إلى اشتراطه لتسجيل العامل السعودي في أنظمة المؤسسة ليتم احتسابه في “نطاقات”، واستمر العمل على التطوير حتى النسخة الأخيرة المُطلقة نهاية عام 2021 باسم برنامج “نطاقات المطوّر”، أسهم البرنامج في رفع معدلات التوطين من 10% عام 2011 إلى 23% عام 2021، كما ساهم في رفع نسبة مشاركة الإناث في القوى العاملة لتصل إلى 35.6%.

علاوة على ذلك، انخفضت بطالة السعوديين إلى أقل معدلاتها في السنوات الأخيرة حيث بلغت في الربع الأول من 2022 10.1%، فكيف استطاع برنامج “نطاقات” تغيير سوق العمل بهذه الوتيرة؟

وضع المعايير

يتبنى سوق العمل السعودي مبادئ الاقتصاد المفتوح، ويبرز ذلك في وجود نسبة كبيرة من مختلف الجنسيات في سوق العمل الخاص (تمثل حوالي 80% من إجمالي العاملين)، وعليه، وُضِع برنامج “نطاقات” عام 2011، لإقرار معايير واضحة للتوطين؛ حمايةً لوظائف المواطنين، ووصولًا للتوازن في سوق العمل.

وفي نهاية عام 2021 أُصدرت نسخة محسنة ومبسطة للبرنامج، هي “نطاقات المطور”؛ لملائمة احتياجات منشآت القطاع الخاص وعامليها بشكل أمثل، وزيادة نموها، واستقرارها التنظيمي، من خلال تقديم خطة توطين واضحة تستمر لثلاث سنوات، علاوة على تبسيط آليات عمل البرنامج، وزيادة وضوحها، بالتالي؛ ستعمل هذه المعايير بشكل كبير على حث الشركات على النمو في سوق العمل. مع الأخذ بالاعتبار أن البرنامج يُقيّم المنشأة من خلال مقارنة أدائها في التوطين بالمنشآت الأخرى من نفس الفئة من ناحية الحجم أو تصنيف القطاع.

ويجدر التنويه بأن عدم احتساب العامل السعودي في نسب التوطين حتى يُسجّل في المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية؛ يحقق له الحماية الاجتماعية حال التقاعد والأخطار المهنية، ويحميه عند التعطل ببرنامج ساند، ويضمن تغطيته ببرنامج حماية الأجور الذي يرصد عمليات صرف الأجور للعاملين.

علاوة على ذلك، يُعدّ تسجيل العاملين في المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية مصدرًا من مصادر بيانات برنامج نطاقات –كما ذُكِر أعلاه- جنباً إلى جنب مع بيانات مركز المعلومات الوطني؛ حيث تُحتسب نسب التوطين بشكل دقيق وتلقائي دون الحاجة إلى التفتيش الدوري على أكثر من 900 ألف منشأة.

تطبيق نظام فعال للحوافز

من السهل أن تضع القواعد، ولكن من الصعب أن تُلزم الجميع باتباعها على الفور، وهنا تأتي أهمية نظام الحوافز، إذ يشير العديد من الدراسات إلى أهمية الحوافز سواء الإيجابية أو السلبية في تشجيع الآخرين على العمل. لذلك وضع برنامج “نطاقات” نظام تحفيز ذكي حقق نجاحاً واسعاً في التزام المنشآت بمعايير التوطين، إذ يمنح البرنامج المنشآت التي تتمتع بنسبة توطين عالية – المتواجدة في النطاقين البلاتيني والأخضر- مرونة أكبر في التعامل مع العمالة الوافدة، على سبيل المثال: (استقبال طلبات رصيد تأشيرات لأي مهنة يطلبها صاحب العمل، وتغيير مهن العمالة الوافدة التي لديها عدا المهن المستثناة بقرارات وزارية، وتجديد رخص العمل لهم، وهكذا). بينما تفقد النطاقات الأقل توطيناً عدداً من هذه المزايا.

إن هذه المزايا والتسهيلات تُمكّن منشآت النطاقين (البلاتيني والأخضر) من المنافسة في سوق العمل، بينما حجبها عن الشركات الأقل توطيناً يُصعّب عليها المنافسة، بالتالي ستضطر إلى الالتزام بالنظام؛ وذلك بتوظيف السعوديين للخروج من النطاق غير الآمن. نتيجة لذلك، نجح البرنامج –وغيره من البرامج المُحفِّزة- في سعيه بوتيرة أسرع من المتوقع، إذ تشير التقديرات إلى أن برنامج نطاقات أدى إلى تجاوز عدد السعوديين في سوق العمل الخاص حاجز مليوني سعودي وهو رقم غير مسبوق، كذلك حقق نطاقات نجاح خاص مع توظيف وتمكين الإناث حيث ساهم في زيادة عدد المواطنات في سوق العمل الخاص من حوالي 100 ألف عام 2011 إلى أكثر من 670 ألف عام 2022.

التوطين النوعي وليس الكمي فقط

إضافة إلى ما قامت به وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية في المملكة من زيادة لعدد المواطنين في سوق العمل، فقد عملت ضمن مبادراتها على تخصيص نسب في بعض المهن النوعية للمواطنين ، وصلت عام 2021 لعشرين مهنة منظمة، تضمنت: المهن الهندسية، ومهن المحاسبة، وطب الأسنان والصيدلة، والسلامة والصحة المهنية، وغيرها، كان آخرها قرار قصر مهن السكرتارية، والترجمة، وأمناء المخزون، ومدخلي  البيانات على السعوديين، علاوة على تحديد حد أدنى للأجور في عدد من المهن ومنها مهنتي الترجمة وأمناء المخزون بأجر 5,000 ريال، والمهن ذات العلاقة بالتسويق بأجر 5,500 ريال، وبعض المهن في القطاع الصحي بأجر 7,000 ريال، مع اشتراط عدم احتساب العامل السعودي الذي يحصل على أجر أقل من ذلك في نسبة التوطين.

تطوير الموارد البشرية

تعاني أسواق العمل العالمية من أزمة مهارات حادة بسبب التغير التقني المتسارع الذي قلل العمر الزمني للمهارات وجعل تطوير واكتساب المهارات ضرورة متسارعة للتمكن من الحصول على عمل، ففي مسح أجرته شركة “ديلويت” للمدراء التنفيذيين، صرح نحو 39% منهم أنهم إما “يستطيعون بالكاد” أو هم “غير قادرين” على الوفاء باحتياجاتهم من المواهب، ما أدخل الشركات في سباق لاجتذاب المواهب من ناحية، ونشر البطالة بين صفوف غير المؤهلين من ناحية أخرى.

هذا التحدي العالمي انعكس أيضاً على سوق العمل السعودي، خاصة في خضم رحلة التحول الرقمي الذي تخوضه العديد من المؤسسات، ما دفع المملكة إلى إطلاق عدد من البرامج والمبادرات، مثل “برنامج تنمية القدرات البشرية“؛ لتحضير المواطنين لسوق العمل المستقبلي المحلي والعالمي، وتنمية مهاراتهم الأساسية ومهارات المستقبل في مختلف المجالات، وبرنامج “دروب” للتدريب الإلكتروني؛ لتطوير قدرات المواطنين، وإكسابهم المهارات الوظيفية التي تساعدهم في الحصول على الوظيفة المناسبة والاستقرار فيها وفق متطلبات سوق العمل السعودي، والذي استفاد منه نحو 1.8 مليون مستفيد، وبرنامج “تمهير” الموجَّه لكافة الخرّيجين السعوديين لتدريبهم في الجهات الحكومية والشركات المتميزة في القطاع الخاص؛ حتى يتمكنوا من اكتساب المهارات اللازمة للمشاركة في سوق العمل.

تحسين نوعية الوظائف

إن أحد الطرق التي يمكن للشركات قياس رأس مالها البشري بواسطتها؛ هي النظر في جودة الوظائف التي توفرها، وفقاً لما أورده الكاتبان إيثان روين ومارسيلا  إسكوباري في مقالهما عبر مصنة هارفارد بزنس ريفيو. علاوة على أن الدول التي استثمرت في وظائف عالية الجودة منذ بداية القرن الحالي حققت نمواً سنوياً أسرع بنقطة مئوية واحدة من بقية الاقتصادات النامية والناشئة وفقاً لتقرير منظمة العمل الدولية.

لذا تضمّن برنامج التحول الوطني عدة مبادرات لإصلاح لوائح مناخ الأعمال، وتمويل عمليات اعتماد المنشآت للتقنيات، وتخطيط المهن، ووضع معايير مهنية وأنظمة مهارية. كما دعمت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية أنماط العمل الحديثة، مثل: (مبادرة العمل المرن)؛ لخلق العديد من الفرص الوظيفية، وتلبية احتياجات منشآت القطاع الخاص من الكوادر الوطنية من أبناء وبنات المملكة، و(مبادرة العمل عن بعد)؛ لمواكبة ثقافة العمل الجديدة المتجاوزة لحدود الزمان والمكان، تضمنت هذه المبادرات نشر أدلة إجرائية، واستحداث منصات تربط بين أصحاب العمل والباحثين عنه، وتقدّم العديد من الخدمات لهم.

الجميع رابح

حقق برنامج “نطاقات” وبرامج التوطين حتى الآن أرقاماً قياسية، سواء في نسبة التوطين التي ارتفعت إلى 23%، أو في عدد السعوديين العاملين في القطاع الخاص الذي وصل إلى نحو أكثر من مليوني مواطن عام 2022، وهو رقم غير مسبوق في سوق العمل السعودي، علاوة على خدمة الشباب السعودي الذي عثر على وظائف لائقة تحقق طموحه، وتلقى التدريب اللازم، إضافة إلى التسهيلات التي يمنحها البرنامج للمنشآت لزيادة قدرتها على المنافسة في السوق.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .