على الرغم من أن سرية الأجور لا تزال هي القاعدة غير الرسمية أو السياسة الرسمية المتبعة مع الموظفين الأميركيين جميعهم تقريباً، فإن الشركات تواجه تصعيداً في الدعوات المنادية بمزيد من الشفافية في الأجور. حيث تعمل الحكومات المحلية والإقليمية والوطنية في مختلف أنحاء العالم على سنّ قوانين تهدف إلى إضفاء مزيد من الوضوح على سياسات الأجور.

تتراوح هذه القوانين ما بين فرض اشتراطات معينة للإبلاغ عن إحصاءات الأجور المجمعة حسب النوع وسنّ قوانين ملزمة بالإفصاح العام عن الأجور الفردية أو حتى الإقرارات الضريبية. وابتداءً من 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، انضمت مدينة نيويورك إلى قائمة متزايدة من حكومات المدن والولايات الأميركية التي تشترط الآن نشر النطاقات “العامة” للرواتب والأجور في إعلانات الوظائف الجديدة كلها. وفي الوقت نفسه، تتوافر في الآونة الحالية القدرة على الوصول المفتوح نسبياً للمعلومات الماسَّة بالرواتب التي يقدمها أصحاب العمل، بفضل الكثير من المواقع الإلكترونية، مثل غلاس دور دوت كوم (Glassdoor.com) وباي سكيل دوت كوم (Payscale.com) وباي دوت كوم (Pay.com)، بالإضافة إلى جهود الموظفين المحليين التي تمخضت عن إعداد جداول بيانات بسيطة مجمعة لرواتبهم وأجورهم. ومع نمو شفافية الأجور بهذا الشكل، فقدت القواعد والسياسات المتعارف عليها حول سرية الأجور أهميتها.

لكن هل الشفافية شيء جيد؟ وهل تحقق النتائج المرجوّة من قِبَل الأفراد والمؤسسات؟ لقد تم إجراء عدد من الدراسات الأكاديمية الحديثة التي قدمت سيلاً من الإجابات المهمة، والمعقدة أيضاً في كثير من الأحيان. وإليك كيفية تأثير شفافية الأجور على مختلف أبعاد العمل:

المساواة في الأجور

على الجانب الإيجابي، تعمل شفافية الأجور على الحد من عدم المساواة في الأجور بسبب النوع والعِرق واللون وغيرها من الأبعاد ذات الصلة. وقد توصّلت دراستنا المنشورة مؤخراً في مجلة طبيعة السلوك البشري (Nature Human Behavior)، على سبيل المثال، إلى أن الانتشار الحثيث لشفافية الأجور في المؤسسات الأكاديمية العامة في الولايات المتحدة قد قلل بشكل كبير من فارق الأجور بين الجنسين، وقضى عليه في بعض الولايات حتى، وتسبب على وجه العموم في إقدام المؤسسات الأكاديمية على ربط الأجور بمقاييس الإنتاجية الأكاديمية التي يسهل ملاحظتها بشكل أكثر اتساقاً أو إنصافاً. وتشير الدراسات التي أُجريت في بيئات أخرى إلى حدوث تراجعات مماثلة في فارق الأجور بين الجنسين استجابةً لشفافية الأجور.

وبعيداً عن هذه النتيجة المرجوة التي لا يختلف اثنان على أهميتها، يصعب تقييم أثر شفافية الأجور؛ إذ تشير دراسات تجريبية أخرى إلى أن شفافية الأجور، بما في ذلك الشكل المطلوب للشفافية بموجب قانون مدينة نيويورك الصادر مؤخراً، تؤدي إلى خفض الأجور الإجمالية لشريحة أكبر من الموظفين، على الرغم من أنها ترفع الأجور المنخفضة بشكل غير عادل. ويبدو أن السبب الأساسي يرجع إلى أن الإفصاح عن الأجور الحالية أو نطاقات الأجور يعطي أرباب العمل ذريعة الالتزام بعدم التفاوض على رفع الأجور مع الموظفين المحتملين أو الحاليين؛ إذ يمكنهم الآن الادعاء بأن دخولهم في أي مفاوضات فردية سيضطرهم إلى التفاوض مع جميع الموظفين (أو الكثيرين منهم). بعبارة أخرى، فإن هذا الشكل من شفافية الأجور قد يقلل من القدرة التفاوضية النسبية للموظفين، على الرغم من أنه يكشف عن توقعات الرواتب التي يقدمها صاحب العمل.

الإنتاجية

تشير دراستنا المنشورة في مجلة طبيعة السلوك البشري إلى أن شفافية الأجور تؤدي إلى المزيد من الإنصاف في الأجور، أي أكثر ارتباطاً بمستوى الأداء بين الموظفين، لكنها تؤدي أيضاً إلى رواتب أكثر تسطّحاً وتساوياً وأقل استناداً إلى التفاوت في مستويات الأداء. وقد يؤدي ضعف العلاقة بين الأجور ومستوى الأداء إلى انخفاض إنتاجية الموظف، وهي نتيجة يبدو أنها تعتمد على ما تكشفه شفافية الأجور (ولِمَن). ووجدنا في دراسة أخرى أنه إذا كشفت شفافية الأجور للموظفين أن شركتهم تراعي الإنصاف والاتساق في كيفية تحديد الأجر بالتناسب مع الأداء، فإن استجابة إنتاجية الموظف الإجمالية تتصف بالإيجابية. لكن إذا كشفت شفافية الأجور أنها لا تراعي الإنصاف في كيفية تحديد الأجر، من خلال التمييز على أساس النوع مثلاً، فإن الإنتاجية الإجمالية تشهد تراجعاً ملموساً.

وقد تباينت استجابات الإنتاجية الفردية أيضاً بطرق يسهل التنبؤ بها، بناءً على شفافية الأجور التي يتعرض لها الأفراد حول كيفية معاملتهم بشكل فردي. على سبيل المثال، إذا كشفت شفافية الأجور للموظف أنه حصل على أجر منخفض، فسيقل مستوى إنتاجيته بكل تأكيد. وإذا كشفت شفافية الأجور عن حصوله على أجر أعلى مما يستحق بشكل غير عادل (أي حصوله على أجر أعلى مما يؤهله له مستوى أدائه)، فإن هذا الموظف سيرفع إنتاجيته بمعدلات مفاجئة. وقد يستند دافع الموظف الأخير إلى محاولات تبرير أجره المرتفع للآخرين، أو ربما يعكس الوعي المشترك بأن شفافية الأجور هي السبيل الوحيد لتحسين مستويات الأداء بشكل كبير.

دوران الموظفين

تسهم شفافية الأجور أيضاً في تشكيل أنماط دوران الموظفين؛ فعندما يعمل أرباب العمل على ضغط الأجور أو تسطيحها استجابةً لسياسة شفافية الأجور، ما يجعل الأجور أقل استناداً إلى التفاوت في مستويات الأداء، فإن الموظفين أصحاب الأداء المتميز سيغادرون الشركة على الأرجح، بحثاً عن مؤسسات أكثر استعداداً لمكافأتهم على أدائهم المتميز (وربما يحافظون على سرية رواتبهم المرتفعة). وبالتالي، يبدو أن وجود مؤسسات تراعي كلاً من السرية والشفافة في الموقع الجغرافي نفسه وفي القطاع تفسه قد يؤدي إلى تعديلات مهمة في سوق العمل.

أولويات الموظف

ثمة عامل أخير يجب مراعاته. لقد أسلفنا القول إن شفافية الأجور تدفع المؤسسات إلى أن تكون أكثر اتساقاً في تحديد مكافآت موظفيها وفق مقاييس الأداء التي يسهل مراقبتها. ولكن ماذا لو كانت مقاييس الأداء التي يسهل مراقبتها لا ترصد العناصر الأساسية للوظيفة، مثل التعاون أو تقديم يد العون أو التوجيه أو مساعدة الآخرين؟ تؤدي الشفافية في هذه الحالات إلى دفع الأفراد إلى زيادة التركيز على مقاييس الأداء التي تؤثر على كيفية توزيع الأجور.

وقد تناولت دراسة أُجريت مؤخراً حول شفافية الأجور ما حدث عندما تم فجأة تطبيق مبدأ الشفافية على رواتب اللاعبين في دوري الهوكي الوطني. وتبيّن أن شفافية الأجور قد كشفت للاعبين أن رواتب الهوكي يتم تحديدها إلى حد كبير من خلال مقاييس الأداء الهجومية (إحراز الأهداف وصناعتها) مع التركيز بصورة أقل بكثير على الفاعلية الدفاعية، وهو بُعد يصعب قياسه في أداء اللاعبين، ولكنه لا يقل أهمية عن الأداء الهجومي. وعندما تم تطبيق مبدأ الشفافية على الرواتب والمقاييس التي تستند إليها، استجاب اللاعبون بشكل متوقّع للحوافز التي كشفت عنها؛ فقد زادوا من تركيزهم على إحراز الأهداف وصناعتها، لكنهم أهملوا الدفاع، وتراجع مستوى أداء اللاعبين بشكل عام في الدوري.

في ضوء هذه النتائج، فإننا نسلم بأنه ينبغي النظر إلى شفافية الأجور باعتبارها أداة للتغيير، ولكنها قد لا تكون غاية في حد ذاتها. ويتمثل أحد أهم التغييرات الإيجابية التي تتمخَّض عنها هذه الأداة في أنها تضفي مزيداً من الإنصاف على عملية توزيع الأجور؛ لكن تأثير شفافية الأجور على النتائج الأخرى، مثل المقدار الإجمالي للأجور ودوران الموظفين وإنتاجيتهم، أكثر تعقيداً ودقة. وتوجب هذه الأبعاد على كلٍّ من أرباب العمل والموظفين فهم تأثيرها واختيار أساليب تطبيق مبدأ الشفافية التي تحقق النتائج التي يسعون إلى تحقيقها.

لكن لكي يكون لدى الشركات أي خيار في تحديد أساليب تطبيق مبدأ الشفافية في الأجور التي تريد تبنيها، يجب على المسؤولين إجراء أي تصحيحات ضرورية لتحديد أجور عادلة وغير تمييزية، ومن ثم توفير القدر الكافي من الشفافية على الأقل للسماح للموظفين بالتحقق من ذلك. وسواء أحبّت الشركات ذلك أم لا، فإن أيام فرض السرية التامة على الأجور باتت معدودة.