انتصاراً للإبداع والابتكار: المحكمة العليا في الولايات المتحدة تكبح جماح متصيدي براءات الاختراع

6 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

أصدرت المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي حكمين مهمين للغاية، وكلاهما يحد من حقوق براءات الاختراع. وقد حجّم هذان الحكمان، اللذان صدرا بالإجماع، من قدرة أصحاب براءات الاختراع على إبطاء عملية الابتكار لدى المنافسين إلى حد كبير. كما سيقلبان الميزان الذي يعتقد الكثير من الخبراء في القانون أنه قد أصبح غير متوازن.

بالنظر إلى القرارين معاً، فإنهما سوف يحسنان من بيئة الابتكار لدى الشركات في الصناعات سريعة النمو. إذ سيكون بمقدور المستهلكين الوصول إلى المنتجات الجديدة بسهولة، وستقل القيود على تلك المنتجات التي يملكونها بالفعل.

لماذا؟ على مدار العقود القليلة الماضية، توسعت المحاكم في تصنيف أنواع الابتكارات التي يمكن منحها براءات اختراع، وفي المقابل خففت من حدة رقابتها على ما يمكن أن يشكل ابتكاراً جديداً حقيقياً. نتيجة لذلك، تواجه الشركات، على اختلاف أحجامها، عقبات متزايدة في أثناء سعيها إلى جلب منتجات وخدمات جديدة إلى السوق، وذلك من جانب أصحاب براءات الاختراع الذين يزعمون انتهاك تلك الشركات ميزات تكاد تكون تافهة وعديمة القيمة.

غالباً ما تكون الشركات الناشئة، بالنظر إلى ما لديها من موارد وخبرات محدودة، في وضع غير مواتٍ فيما يتصل بعملية التقاضي بشأن براءات الاختراع بما تنطوي عليه من تكلفة مالية مرتفعة ووقت طويل. وهنا لا يكون أمام تلك الشركات سوى اللجوء إلى التسوية مع أصحاب براءات الاختراع أو ترك الأمر برمته والتخلي عنه.

القرار الأول الذي صدر في قضية شركة “تي سي هارتلاند” ضد شركة “كرافت فودز غروب” (TC Heartland v. Kraft Foods Group) كان بمنزلة ضربة موجعة لمن يطلق عليهم “متصيدو براءات الاختراع”، ويعرفون بشكل أكثر تأدباً باسم “كيانات تأكيد براءات الاختراع”. وتشتري هذه الشركات براءات الاختراع غير المستخدمة، وتكون ضعيفة في الغالب، ثم ترفع استراتيجياً دعاوى قضائية ضد شركات التكنولوجيا الكبيرة والصغيرة، بزعم ملكيتها للمكونات الصغيرة للمنتجات التي كانت مطروحة في السوق منذ زمن طويل.

في السنوات الأخيرة، وجد متصيدو براءات الاختراع هؤلاء بيئة مواتية للمدعين في محاكم شرق تكساس بأميركا، التي تجذب أكثر من 40% من جميع القضايا المتعلقة ببراءات الاختراع في أميركا. فإلى أي مدى تتسم القواعد هناك بعدم التوازن؟ في القضايا القليلة التي تجد طريقها إلى المحاكم، (بعبارة أخرى القضايا التي لا تتم تسويتها خارج المحاكم)، يكسب أصحاب براءات الاختراع قرابة 80% منها. لذلك، يفضل كثيرون من المدعى عليهم التسوية خارج المحاكم، بصرف النظر عن قوة براءات الاختراع محل الادعاء. على سبيل المثال، وجدت شركة “سامسونج”، عملاق التقنية الكوري، نفسها أمام المحكمة في مارشال بولاية تكساس الأميركية، في أحيان كثيرة جداً، لدرجة أن الشركة أخذت في إنفاق مبالغ كبيرة في الوقت الحالي لتحسين صورتها لدى السكان المحليين (والمحلفين المحتملين)، إذ تقوم بإغداق المنح التعليمية وغيرها من التبرعات على سكان المدينة البالغ عددهم 25 ألف نسمة، بل إنها وترعى حلبة للتزلج على الجليد في الشتاء تقع أمام مقر المحكمة.

جاء حكم المحكمة العليا في هذه القضية ليلغي قرارات المحكمة الأقل درجة التي سمحت فعلياً لأصحاب براءات الاختراع برفع دعاوى قضائية بخصوص الانتهاك أمام أي محكمة فيدرالية في البلاد، بما في ذلك شرق تكساس. وبدلاً من ذلك، ذكرت المحكمة أن قانون براءات الاختراع يقتضي بشكل معقول أن يكون المدعى عليه إما كياناً تأسس في الولاية التي تُرفع فيها الدعوى، أو أن يكون له مقر منتظم في تلك الولاية يمارس منه أعماله بانتظام.

وبالنسبة لمعظم الشركات الناشئة، سيقضي هذا الحكم على خطر التعرض للتقاضي في شرق تكساس. وفي هذا السياق قال لي مارك ليملي، الأستاذ بكلية القانون في جامعة “ستانفورد”، والخبير الرائد في مجال براءات الاختراع: “لا أعتقد أن قضية شركة (تي سي هارتلاند) سوف تضع حداً ونهاية للدعاوى القانونية في المنطقة الشرقية بولاية تكساس، ولكن بكل تأكيد ستجعل عدداً من القضايا يتنقل منها إلى أماكن أخرى. أما القضايا التي ستظل في تكساس، فستكون تلك القضايا المرفوعة ضد شركات تجزئة كبيرة لها متاجر في جميع المقاطعات”. (للعلم، نظم مارك ليملي مذكرة موجزة مطالباً بتفسير قانون براءات الاختراع الذي استندت إليه المحكمة).

أما القرار الثاني، فقد وضع قيوداً على حقوق أصحاب براءات الاختراع في الرقابة على ابتكاراتهم، على وجه الخصوص، عندما يتم بيع المنتجات المعنية للمستهلكين. ففي القضية المعنونة بـ “إمبريشن بروداكتس ضد ليكسمارك” ( Impression Products v. Lexmark)، استعرضت المحكمة العليا دعوى شركة تصنيع الطابعات “ليكسمارك”، التي استمرت على مدار عقود، وتضمنت إعادة استخدام أطراف ثالثة لخراطيش الحبر التي تصنعها الشركة وتبيعها.

فخراطيش الحبر مرتفعة التكلفة عند تصنيعها، أما إعادة ملئها فتكلفتها زهيدة. وحتى تضمن شركة “ليكسمارك” قدرتها على الاستمرار في بيع خراطيش حبر جديدة خاصة بالطابعات التي تصنعها، راحت تضع عقبات تقنية وقانونية منذ زمن طويل، بحيث تقيد سوق خراطيش الحبر القديمة التي يبيعها المستهلكون لأطراف ثالثة، وهم يقومون بدورهم بإعادة ملئها في مقابل تكلفة أقل من تلك التي تتقاضاها شركة “ليكسمارك” مقابل خراطيش الحبر الجديدة.

لذلك، حاولت الشركة وضع برمجيات معينة تجعل خراطيش الحبر المعاد ملؤها غير قابلة للاستخدام، إلا أن شركات أخرى نجحت في العثور على طرق للتحايل على هذه البرمجيات، فما كان من “ليكسمارك” إلا أن قامت بمقاضاة هذه الشركات بدعوى انتهاكها حقوقها.

وبعد أن خسرت الشركة تلك القضايا، قررت أن تتجه إلى قانون براءات الاختراع. وذكرت “شركة ليكسمارك” في قضيتها ضد شركة “إمبريشن بروداكتس”، أنها عقدت اتفاقيات مع المستهلكين بشأن إرجاع إعادة خراطيش الحبر الفارغة في مقابل الحصول على خراطيش حبر جديدة بأسعار مخفضة (والمعروف باسم “برنامج الإرجاع”)، وبالفعل حفظ حق براءات الاختراع الخاصة بشركة “ليكسمارك”. ولكن الأطراف الثالثة الذين حصلوا على خراطيش الحبر من خلال برنامج الإرجاع قاموا بإعادة ملئها، وبيعها دون الحصول على تصريح من شركة “ليكسمارك”، وهو ما يعتبر انتهاكاً لبراءات الاختراع الخاصة بالشركة.

وجاء قرار المحكمة العليا واضحاً: “ليس الأمر كذلك”. حيث استندت المحكمة إلى سابقة قضائية تعود إلى القرن السابع عشر، ودعم قضاة المحكمة دفاع شركة “إمبريشن بروداكتس” أنه بمجرد أن ينتقل المنتج إلى أيدي المستهلكين، تنتهي حماية براءة الاختراع. وجاء قرار المحكمة الذي اتُخذ بالإجماع ليقول: “بمجرد أن يتم بيع خراطيش الحبر، فإن خراطيش الحبر المباعة من خلال برنامج الإرجاع تنقل إلى خارج نطاق احتكار براءة الاختراع، وكل ما يمكن أن تملكه شركة “ليكسمارك” من حقوق إنما هو مسألة ترتبط بالعقود التي تبرمها مع المشترين، ولكنها لا ترتبط بقانون براءات الاختراع”. لا يزال بإمكان شركة “ليكسمارك” أن تحاول تنفيذ اتفاقياتها الموقعة مع المستهلكين من الأفراد الذين لا يقومون بإرجاع خراطيش الحبر الفارغة حسب الوعد المتفق عليه، ولكن الاتفاقيات هذه لا تنطبق على الأطراف الثالثة مثل “إمبريشن بروداكتس”.

وقد فسر قضاة المحكمة الأمر على هذا النحو: إن الادعاء بغير ذلك من شأنه أن يمنح أصحاب براءات الاختراع سلطة السيطرة على الأسواق الثانوية والتحكم فيها، وهي سلطة لم يقصد قانون براءات الاختراع على الإطلاق أن يمنحها، لأنها قد تتسبب في حالة من الفوضى للشركات التي تقوم بإصلاح السيارات المستعملة وتجديدها، والمنتجات الإلكترونية المعقدة مثل أجهزة الهواتف الذكية. إذ ذكرت المحكمة أن “تمديد حقوق براءات الاختراع بما يتجاوز عملية البيع الأولى من شأنه أن يسد قنوات التجارة. كما أن التطورات في مجال التكنولوجيا، بالإضافة إلى سلاسل التوريد المعقدة بشكل متزايد، تعظم المشكلة وتضخمها”.

وتسرّع القضيتان ذلك التحول المستمر في السلطة بعيداً عن أصحاب براءات الاختراع. ومن الملاحظ والمهم، أن القرارين يلغيان بالإجماع الأحكام الصادرة عن المحكمة الفيدرالية، وهي محكمة خاصة أسست في عام 1982 للنظر في استئنافات قضايا براءات الاختراع على مستوى البلاد. وينظر الكثيرون إلى المحكمة الفيدرالية على أنها تنحاز إلى أصحاب براءات الاختراع، حيث تمد حقوقهم للتحكم في العملية برمتها شكلاً ومضموناً.

وكما يلاحظ ليملي، فإن المحكمة الفيدرالية قد تعرضت في السنوات الأخيرة لنقض أحكامها على نحو أكثر تكراراً من أي محكمة استئنافية أخرى. وفي هذا السياق يقول ليملي: “إن الكثير من حالات النقض هذه تعكس إدراكاً مفاده أن المحكمة الفيدرالية تتجاهل سابقة المحكمة العليا وتنشئ قواعدها هي فيما يتصل ببراءات الاختراع، وقد صح هذا في كلتا القضيتين”.

ومع ذلك، لا تملك المحكمة العليا من الصلاحيات والقدرات ما يمكّنها من الانتقال بنظام براءات الاختراع إلى القرن الحادي والعشرين. فالإصلاح الحقيقي لبراءات الاختراع إنما هو وظيفة “الكونغرس” ومهمته، وقد غاب غياباً كبيراً خلال الانفجار الفوضوي في كل من براءات الاختراع الجديدة والأنواع الجديدة من براءات الاختراع، بما في ذلك ما يتصل منها بالبرمجيات وطرق ومنهجيات الأعمال التجارية. وعلى مدار السنوات الماضية، قُدمت الكثير من مشاريع القوانين المرتبطة ببراءات الاختراع، وكان من بينها مشروع قانون كان من شأنه أن يتعامل مباشرة مع مشكلة محكمة شرق تكساس، وكانت مشاريع القوانين هذه مدعومة من الحزبين (الديمقراطي والجمهوري). ولكن الكونغرس أخفق في تمرير أي تشريع خاص ببراءات الاختراع منذ عام 2011.

كما كان من شأن مشروع إصلاح متواضع، يُعرف باسم “قانون الابتكار”، أن يحد من الأضرار التي تسبب فيها “متصيدو براءات الاختراع”، إذ كان من شأنه أن يجبر أصحاب الدعاوى أن يكونوا أكثر تحديداً بخصوص براءات الاختراع التي يؤكدونها، وأن يقيد الكشف عن الوقائع غير المعروفة في مرحلة ما قبل التقاضي، والذي يمكن أن يكلف الملايين ويشكل ضغوطاً على المدعي عليهم الأبرياء للدخول في تسوية خارج المحكمة. وقد تم تمرير مشروع القانون بأغلبية ساحقة في مجلس النواب في عام 2014، ولكنه تعرض للإجهاض من جانب هاري ريد، زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ آنذاك.

تعتبر جهود المحكمة العليا المستمرة لكبح جماح انتهاكات براءات الاختراع أخباراً سارة بالنسبة لكل من الشركات الناشئة والشركات القائمة على حد سواء. وهكذا، مع القضاء على العقبات والصعاب التي كانت تكتنف الطريق إلى شرق تكساس وإلى أماكن أخرى مختلفة الآن، لا يزال المبتكرون بحاجة إلى فهم المخاطر التي يشكلها متصيدو براءات الاختراع وحلفاؤهم، الذين قاموا بلي ذراع النظام بطرق تردع المنافسة المشروعة.

يُفترض أن براءات الاختراع تعظم الابتكار عن طريق حماية المنتجات والخدمات الجديدة حقاً. ولكن، وحتى يفرغ “الكونغرس” من الإصلاحات التشريعية الملحة والعاجلة، فإن النظام الحالي المعمول به غالباً ما يفعل العكس.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .