تقرير خاص

حياتنا المستقبلية وسُبل عيشنا: النمو والاستدامة والشمول

13 دقيقة
النمو والاستدامة والشمول
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

نمو يُفيد الجميع، ويخدم الصالح العام. نستعرض فيما يلي مقترحاً نقدّمه لمدراء الشركات، والمسؤولين الحكوميين، والقادة المجتمعيين.

مع بدء خروج الاقتصاد العالمي من أزمة “كوفيد-19″، سيأتي وقت قريباً على القادة والزعماء سيضطرون فيه إلى النظر إلى أبعد مما هو مطلوب لحماية حياة الناس وسبل عيشهم، حيث سيتعين عليهم أن يتعاملوا مع تحدّ أعمق يتمثل في تحسينهما. وربما يكون هذا التحدي المجتمعي أضخم بعشر مرات مقارنة بالجائحة، وقد يستمر لعشرة أضعاف مدتها. ويُعتبرُ كل واحد من هذه الأهداف الثلاثة الماثلة في أذهاننا – النمو، والاستدامة، والشمول – مُعزّزاً للهدفين الباقيين، إلا أن هذه الأهداف لا تسير في ذات الاتجاه على الدوام؛ فنحن نرى حلقات مُعزّزة وحلقات مُعارِضة قوية فيما بينها (الشكل الإيضاحي أدناه). وبالتالي، وعلى الرغم من الاتفاق العريض بين العديد من الناس على بلوغ هذا الطموح، إلا أن هناك سؤالاً صعباً للغاية يظل مطروحاً في الخلفية ويبحث عن إجابة ومفاده: كيف نعمل على بناء مستقبل يحقق النمو والاستدامة والشمول معاً؟

توضيح حول ما سنقدمه في هذا المقال: نحن لن نقدّم إجابة. بل سنقترح طريقة على صنّاع التغيير في عالم الأعمال والشركات والحكومات والمجتمع لاستكشاف المشكلة، وهذه الطريقة هي نموذج ذهني قد يوفّر أفضل فرصة ممكنة للوصول إلى إجابة. ويبدأ الأمر بما يلي: نحن نؤمن أن حرفي العطف “الواو” اللذين يجمعان بين هذه الأهداف الثلاثة هما عنصران أساسيان وهما في الحقيقة وسيلة لتحقيق “الغاية”. كما أن الأهداف الثلاثة المتمثلة في النمو، والاستدامة، والشمول مترابطة بعمق ولا يمكن المقايضة فيما بينها. وإليكم الفكرة التالية التي تستحق التأمل: دون نمو، كيف بوسعنا تحقيق الازدهار والرخاء أو دفع ثمن التحولات المطلوبة لجعل الاقتصاد أكثر استدامة وشمولاً؟ ودون استدامة، كيف بوسعنا تحقيق نمو يخدم مصالح الجيل الحالي والأجيال اللاحقة؟ ودون شمول – وهو فرصة لعمل مثمر وحياة مُرضِية لجميع المواطنين – كيف بوسعنا ضمان توفر الطلب الذي سنحتاج إليه لدفع عجلة النمو إلى الأمام؟ في الحقيقة، تحقيق هذه الأهداف الثلاثة معاً، أي الانتقال إلى عالم يشكّل فيه النمو والاستدامة والشمول ديناميكية قوية، هو أمر حتمي في الحقبة المقبلة في عالم الأعمال والشركات.

الجمع بين النمو والاستدامة والشمول

ولكن قبل أن نصل إلى تحدّي الجمع بين النمو والاستدامة والشمول، دعونا نواجه الحقائق: تسريع حصول النمو والاستدامة والشمول هو تحدّ صعب للغاية بحد ذاته. ولحسن الحظ، فإن المفكرين، والاستراتيجيين، والناشطين والعديد من الأشخاص الآخرين في أنحاء العالم، سواء من الحالمين أو الواقعيين، يعكفون على إنجاز هذه المهمة. ومن وجهة نظرنا، سيكون العالم بحاجة إلى مواجهة هذه المشاكل في وقت متزامن:

النمو هو هدف ليس سهل المنال. ففي اقتصادات الدول الصناعية السبع الكبرى الناضجة، تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى النصف ليبلغ 1% سنوياً وسطياً منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008. وتتكرر القصة ذاتها في الاقتصادات الناشئة. فعلى الرغم من بعض الاستثناءات، مثل الصين والهند، إلا أن مستوى النمو في الاقتصادات الناشئة كان مؤخراً أدنى من المستويات التي سجّلت في السنوات الأولى للألفية الثانية.

لا يزال الفقر مستشرياً، على الرغم من التقدم المحرز. فقد كان هناك أكثر من 600 مليون نسمة كانوا ما يزالون يعيشون في حالة من الفقر المدقع حتى عام 2017. وفي عام 2020، انضم إليهم ما يقرب من 100 مليون إنسان إضافي نتيجة لجائحة “كوفيد-19”. وسيظل هذا الوضع يستمر ما لم يُسهم قادة اليوم في إيجاد ما يكفي من الوظائف بأجور لائقة، إضافة إلى صياغة عقد اجتماعي مُحكَم يضمن إمكانية الحصول على السكن، والرعاية الصحية، والطاقة بتكلفة ميسّرة لأدنى قسم إلى ثلاثة أقسام من التقسيم الخمسي لمستويات الدخل للسكان بحسب وضع البلد المعني. وفي غضون ذلك، فإن ثمة تهديداً جديداً للدخل الشخصي يتمثل في تنامي التغييرات المرتكزة إلى التكنولوجيا في طرق عملنا، علماً أن الجائحة أسهمت في تسريع هذا التوجه. تشير تقديراتنا إلى أن أكثر من 100 مليون إنسان سيكونون بحاجة إلى تعديل مهنهم التي يعملون فيها بحلول عام 2030 في مجموعة من ثمانية اقتصادات متقدمة وناشئة.

يتطلب ضمان الوصول إلى مستقبل مستدام ضخ استثمارات هائلة. فعلى سبيل المثال، تشير توقعات وكالة الطاقة الدولية إلى أن الوصول إلى صافي انبعاثات كربونية صفرية قد يستدعي استثمار ما يقرب من 5 ترليونات دولار سنوياً بحلول 2030، و4.5 ترليون دولار بحلول 2050. وتعادل الفاتورة السنوية ما يقرب من نصف أرباح الشركات العالمية الكبرى في 2019، أو ما يوازي أكثر من 1.5 ضعف الزيادة السنوية في الدين العام خلال السنوات الخمس عشرة السابقة. ويمكن للاستثمارات الإضافية المطلوبة للتخلص من الكربون في الزراعة، والنقل، وغيرهما من القطاعات أن تُضاعِف الفاتورة تقريباً. ورغم أن العديد من هذه الاستثمارات سوف يحقق عائداً، إلا أن تمويلها أو عمليات تسعيرها غير محددة بعد.

وهذه مجرّد البداية. فكما سنشرح في هذه المقالة، حتى لو تمكّن الاقتصاد العالمي من تحقيق هذه الأهداف الثلاثة بالطريقة الصائبة من حيث المبدأ، فإن هناك شروطاً متبادلة فيما بينها، وإذا تُرِكت هذه الأمور دون حل، فإن التقدم المُحرز قد يخرج عن المسار المرسوم.

نحاول في الصفحات التالية تأطير الحوار المتعلق بكيفية تحقيق نمو مستدام وشامل بطريقة واضحة، محددين الطموح إضافة إلى عرض المشاكل الأصعب التي تحتاج إلى معالجة لتحقيق هذا النمو، مع إيضاح حجمها. ولا بد لأي استراتيجية ناجحة أن تنطلق بطرح الأسئلة الصائبة. وبالنسبة لقادة اليوم، تُعتبرُ الأسئلة كثيرة وعميقة – وهي قابلة للحل.

الدائرة الحميدة تبدأ بالنمو

ما الذي نعنيه بالنمو المستدام والشامل؟ هناك عدة أفكار تقترن بهذه الكلمات. ونحن نسعى إلى تقديم تفسيرات عريضة وليس تفسيرات ضيّقة:

  • عندما نقول “نمو”، فإننا نشمل الهدف الطموح المتمثل في زيادة الرخاء والعافية، بما في ذلك نمو الأرباح الاقتصادية للشركات، ونمو الناتج المحلي الإجمالي في الدول – إضافة إلى مقاييس مثل رضا المواطنين عن حياتهم – وهي مستمدة جزئياً من العمل بكرامة (وهنا يجب أن نعترف أن التعريفات القابلة للقياس للعافية لا تزال قيد التطور).
  • عندما نقول “شمول”، فإننا نأخذ بالحسبان المساواة في الفرص وإحراز تقدّم في تحقيق محصلات واسعة النطاق لصالح الجميع – وتحديداً كفاية مستويات المعيشة – وتضييق الفجوات وتقليل عدم المساواة بين الجنسين، وبين الأشخاص المنتمين إلى فئات عمرية وعرقية مختلفة، وبين من ينحدرون من أوضاع عائلية متباينة أو يعيشون في أماكن مختلفة.
  • عند الحديث عن “الاستدامة”، فإننا نهدف إلى المرونة البيئية، وهذا يبدأ بالتقليل من المخاطر البيئية لكنه يشمل أيضاً حفاظاً أوسع على رأس المال الطبيعي إضافة إلى ضمان تحقيق العدالة بين الأجيال، وكل ذلك محسوب من حيث المنافع والتكاليف الاقتصادية والاجتماعية.

لا شك في أن عملية تحقيق هذه الأهداف الثلاثة مضنية. ولكن لحسن الحظ، فإن كل هدف منها يمكن أن يعزز الهدفين الآخرين ويقويهما:

  • النمو يدعم الشمول، الجزء الأول: إيجاد وظائف هادفة ورفع دخل الناس. شكّلت الاقتصادات الناشئة ذات مستويات النمو العالية برهاناً قوياً على أن النمو يدعم الشمول من خلال تقليل النسبة العالمية للأشخاص الذين يعيشون في حالة فقر شديد بمقدار الثلثين – إلى أقل من 10% من سكان العالم – ومن خلال استيعاب مئات ملايين الأشخاص ضمن صفوف الطبقة الوسطى. وينطبق ذلك على الاقتصادات المتقدمة أيضاً. فخلال الفترة الواقعة بين بداية تسعينيات القرن العشرين وحتى عام 2005، أي قبل الأزمة المالية العالمية، ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح ما بين 2% و4% سنوياً، كما ارتفع وسيط الدخل الحقيقي للأسرة بحسب القيمة السوقية.
  • النمو يدعم الشمول، الجزء الثاني: تصحيح الاختلالات وعدم المساواة في سوق العمل. في الاقتصادات الآخذة بالنمو، يمكن للتحويلات المالية الحكومية والسياسات الضريبية أن تساعد في دعم دخل أعداد كبيرة من السكان. وقد توصّل بحث لمعهد ماكنزي العالمي إلى أن الدخول الحقيقية بحسب القيمة السوقية كانت مستقرة أو تراجعت في حالة 20% إلى 25% من الأسر، بعد الضرائب والتحويلات؛ أما قبل هذه التحويلات، فإن 60% إلى 70% تقريباً من الأسر شهدت تراجعاً في دخلها. وخلال الجائحة، وعلى الرغم من تراجع وسيط دخل الأسرة الأميركية 2.9% في 2020، إلا أن نسبة الأشخاص الذين يعيشون في حالة فقر هبطت، بعد أخذ المساعدات الحكومية بالحسبان.
  • النمو يساعد على الاستدامة من خلال التشجيع على الاستثمار. يسهم النمو الاقتصادي في تعزيز ثقة المستهلك، وكذلك الإنفاق والطلب الاستهلاكيين، وكل هذه العناصر حيوية وأساسية لمناخ استثماري صحي – وهو شيء سيكون التحول في مجال الطاقة بحاجة إليه. وكما أظهر بحثنا المتعلق بالاقتصادات الناشئة التي تفوقت في الأداء، فإن تعميق رأس المال الذي ينجم عن الاستثمار الأكبر يعزز الإنتاجية، ويعزز معها الأجور والنمو.
  • يسهم توفير قدر أكبر من الشمول والاستدامة في تعزيز النمو من خلال الطلب الجديد والفرص الاستثمارية. إذ توفّر الاستدامة فرصاً تجارية جديدة في مجالات مثل الطاقة النظيفة. بمقدور الهند، على سبيل المثال، مضاعفة قدراتها في مجال الطاقة المتجددة أكثر من أربع مرات بحلول عام 2030؛ وتشير تقديراتنا إلى أن ذلك يمكن أن يزيد حجم الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 90 مليار دولار وأن يدعم ما يقرب من مليوني فرصة عمل في 2030. ويمكن للشمول أن يترك آثاراً قوية مشابهة على النمو، حيث تدلّ توقعاتنا على أن توفير إمكانية الحصول على الرعاية الصحية بطريقة أشمل للناس يمكن أن يزيد من نمو الناتج المحلي الإجمالي للعالم بمقدار 0.4% بحلول 2040. أما على نطاق أوسع، فإن الشمول يعزز الطلب، بما أن الطبقة الوسطى الآخذة بالظهور والنمو تشكّل محفزاً أساسياً للطلب. تضم أفريقيا ما يقرب من 200 مليون إنسان في عمر العمل، وسيصل عدد أفراد هذه الفئة إلى ما يقرب من مليار شخص بحلول 2050. ويمكن لتدريب الشباب وتطويرهم، وتحديداً في مجال المهارات الرقمية، أن ينقل هذه المجموعة إلى صفوف الطبقة الوسطى، ويمكن أن يساعد في سد الفجوة في مجال المهارات في بقية أنحاء العالم.
  • تعزّز الاستدامة كلاً من الشمول والنمو من خلال “مكافأة الطاقة”، حيث سيسهم التحول في مجال الطاقة في تقديم جائزة مؤلفة من منفعتين شاملتين، الأولى هي التكاليف الأدنى، والثانية هي الوصول إلى حياة ذات إنتاجية أعلى. فخلال السنوات العشر الماضية، تراجعت تكلفة إنتاج الكهرباء من الطاقة المتجددة بحدود 50% إلى 85%. وقد أصبحت الطاقات المتجددة الآن تسجّل حضوراً قوياً في الاقتصادات النامية. ففي أفريقيا جنوب الصحراء، وهي منطقة تتضمن أدنى معدلات الحصول على الطاقة في العالم، بدأت الحلول اللامركزية في مجال الطاقة المتجددة مثل ألواح الطاقة الشمسية التي تُوضَع على أسطح المنازل بالتجذر. ويمكن للانبعاثات الكربونية الأقل وتراجع تلوّث الهواء أن يسهما في تحسّن صحة الناس، وأن يسمحا لأعداد أكبر منهم بالمشاركة المثمرة في الاقتصاد. ويزخر التاريخ بالعِبَر والدروس المفيدة، فبعد إصدار قانون الهواء النظيف في الولايات المتحدة الأميركية عام 1970، أسهم التراجع في التلوث في زيادة نسبة المشاركة في القوى العاملة بين صفوف الأفراد المتأثرين وترك أثراً إيجابياً بعيد المدى على الأجور.

العناصر الثلاثة المتمثلة في النمو، والاستدامة، والشمول مترابطة بعمق ولا يمكن المقايضة فيما بينها.

تربيع الدائرة

لو وصلنا إلى حالة كان فيها كل عنصر من عناصر دائرة النمو المستدام والشامل ينتج عوامل تعزيز إيجابية للعنصرين الآخرين فحسب، فإن الطريق المستقبلي سيكون واضحاً. لكن الواقع يشير إلى أن الاستدامة، والشمول، والنمو تتعارض أيضاً. وتربيع هذه الدائرة يعني محاربة ثلاث مجموعات من القوى المتعارضة المحتملة، التي قد لا تقل قوة عن الحلقات المُعزّزة.

القوى المعارِضة للنمو

يفرض النمو تحديين رئيسين. التحدي الأول هو التزايد المستمر في عدم المساواة، وهذا أمر يمكن أن يُفاقِم النمو، حيث تشير الأرقام أصلاً إلى أن 70% من سكان العالم يعيشون في دول يتزايد فيها حجم عدم المساواة. أما التحدي الثاني فهو التنامي في استهلاك الموارد والانبعاثات.

  • يؤثر النمو على الشمول من خلال حالة عدم المساواة الناجمة عن الانحياز إلى أصحاب المهارات، إذ من المتوقع أن يزداد حجم عدم المساواة هذا بسبب التوجهات التي سرّعتها جائحة “كوفيد-19”. فقد أدى النمو في الاقتصاد المعرفي إلى تعزيز الطلب على المهارات المعرفية والتكنولوجية والاجتماعية العاطفية ذات السوية الأعلى، وهو طلب لا يقابله معروض كافٍ من العاملين المزودين بهذه المهارات. ونتيجة لذلك، حصلت قفزة في حالة عدم المساواة الناجمة عن الانحياز إلى أصحاب المهارات في العديد من الدول. ففي الولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال، نمت أجور الوظائف ذات الدخل المتوسط بنسبة 1.1% بين 2000 و2018، في حين نمت أجور العاملين ذوي الرواتب العالية بنسبة 7.3% و نمت أجور العاملين ذوي الرواتب المتدنية بنسبة 5.3%. ومع تسبب الجائحة بتسريع التحول الرقمي والأتمتة، فإن كل النمو تقريباً في الطلب على اليد العاملة يحصل في المهن ذات الأجور العالية. وسوف يزداد عدد العاملين الذين سيكونون بحاجة إلى تعديل مهنهم بحلول عام 2030 للمحافظة على وظائفهم بنسبة قد تصل إلى 25%، بما في ذلك، وللمرة الأولى، العديد من العاملين في المهن ذات الأجور المتدنية.
  • يُعارض النمو الاستدامة من خلال الاستهلاك الأكبر للموارد. فالبصمة العالمية للمواد، أي المواد الخام المستعملة في تصنيع السلع التي نستهلكها – ترتفع ارتفاعاً متناسباً مع نمو الناتج المحلي الإجمالي. ومع توسّع النمو في الدول الناشئة، يمكن لمشكلة تزايد البصمة العالمية للمواد أن تتفاقم. ووفقاً للبنك الدولي، فإن ما يقرب من 10% من سكان العالم مازالوا غير قادرين على الحصول على الكهرباء، في حين يفتقر 2.6 مليار إنسان إلى حلول الطهي النظيف. فإذا لم يكن تزايد الطلب من فئة استهلاكية آخذة بالتوسع على مستوى العالم مترافقاً بتحسينات في كفاءة استهلاك الموارد، فإن هذا الشيء سيتسبب بعبء أكبر سيُلقى على كاهل كوكب الأرض.

القوى المعارِضة للاستدامة

ثمة حاجة لاستثمار رأس مال بترليونات الدولارات في مجال الطاقة من أجل تحقيق الهدف الخاص بالحياد الكربوني والانبعاثات الصفرية بحلول 2050. وإذا ما أسهم المستهلكون والشركات في حمل جزء من العبء، فإن النمو والشمول قد يكونان معرّضين لمشاكل على المدى القصير، على الرغم من أن المنافع على المدى البعيد واضحة. فإذا ما مُرّرت التكاليف إلى المستهلكين، فإن أسعار الطاقة قد ترتفع قبل فترة طويلة من تحقيق الثمار الإيجابية المرجوة في نهاية المطاف، وإذا ما مُرّرت التكاليف إلى الشركات، فإن ربحية قطاعات بأكملها قد تتأثر تأثراً سلبياً.

تمهّد هذه الديناميكية الطريق أمام قوتين معارضتين محتملتين هما التوزع غير المتساوي للأثر وتحدّي هدف الشمول.

  • يمكن للتحول في مجال الطاقة أن يؤثر تأثيراً حاداً على بعض الدول والقطاعات. فالدول المنتجة للنفط والغاز الطبيعي قد تشهد تراجعاً في نصيب الفرد فيها من الدخل السنوي من هذه المنتجات بنسبة تبلغ 75% تقريباً بحلول ثلاثينيات القرن الحالي، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية. وسوف تكون الدول ذات الدخل الأدنى في وضع أسوأ نسبياً لأن لديها نسبة أعلى من القطاعات ذات الكثافة العالية من الانبعاثات وستكون بحاجة إلى ضخ نسبة أعلى من الاستثمارات مقارنة بناتجها المحلي الإجمالي. وتشمل هذه القطاعات الكهرباء، والسيارات، والإنشاءات، وغيرها، وكلها قطاعات سوف تتأثر تأثراً شديداً، حالها حال سلاسل التوريد.
  • سوف تكون الأسر ذات الدخل الأدنى في وضع أضعف من غيرها نسبياً. ففي أوروبا، شكلت أسعار الطاقة المتزايدة – وهذه أولى بشائر التحول في مجال الطاقة – عبئاً ثقيلاً على الأسر ذات الدخل المنخفض، ما دفع بعض الحكومات، بما في ذلك حكومة إسبانيا، إلى تقديم الدعم المالي. وعلى الرغم من أن التحول في مجال الطاقة يمكن أن يقود إلى 18 مليون وظيفة إضافية في الاقتصاد الأخضر، وفقاً لتقديرات منظمة العمل الدولية، فإن العديد من الناس، ولاسيما العاملين ذوي الدخل الأدنى، سيكونون بحاجة إلى إعادة تدريب لكي يكونوا مؤهلين لشغل هذه الوظائف الجديدة.

القوى المحتملة المُعارِضة للشمول

ليس هناك من يجادل في الآثار الإيجابية للشمول التي تحظى بتوثيق جيد، وهي تتمثل في نسبة مشاركة أعلى بين صفوف القوى العاملة، وإبداع أكبر، وتخصيص رأسمال إضافي لتلبية احتياجات الأطفال. بيد أن التدابير غير المدروسة لتعزيز الشمول يمكن أن تترك تبعات سلبية غير مقصودة قد تشمل أسواقاً مشوّهة للمنتجات، أو تراجعاً في الاستثمار، أو تدهوراً بيئياً أسرع. فعلى سبيل المثال، في الاقتصادات النامية، يمكن أن تقود أسعار الكهرباء المجانية أو المدعومة دعماً مالياً شديداً وغير المرتبطة بحجم الاستهلاك والمستخدمة في ضخ المياه إلى استنزاف المياه الجوفية. كما يمكن للجهود الرامية إلى تحقيق المساواة أن تقود إلى نتائج عكسية إذا ما تحوّلت إلى مجرّد جهود روتينية وبيروقراطية ترمي إلى الاكتفاء بالامتثال إلى قواعد مفروضة، أو ما إذا كانت برنامجاً يقوم على مبدأ تخصيص الحصص الإلزامية (الكوتا)، وهذا أسلوب قد يخفق في معالجة الأسباب الجذرية لعدم المساواة. ونتيجة لذلك، فإن الهدف المتمثل في الوصول إلى مكان عمل أو مجتمع أكثر إنصافاً قد لا يتحقق، لا بل قد تكون النتائج التي تحصل عليها بعض المجموعات أسوأ.

مقترح لكي نبدأ الآن، نبدأ من هنا

تُعتبر فكرة وجود مستقبل يحقق النمو والاستدامة والشمول معاً فكرة شديدة الإلحاح، إلى حد أن قادة اليوم مدينون للأجيال المستقبلية بالتحرك الفوري. ولا يمكن ترك هذه المهمة إلى المصلحة الذاتية المستنيرة، فلو كان الأمر بهذه السهولة، لكانت المشكلة قد حُلّت أصلاً. لكننا نرى ستة تحديات أساسية لا بد من معالجتها، حيث يتوقف النجاح والفشل في إنجاز هذه المهمة على مدى الفاعلية في التعامل مع هذه التحديات.

  1. كيف بالإمكان “إطلاق العنان للنمو المدعوم بالإنتاجية الأعلى” لكي يزداد بواقع نقطة مئوية واحدة إلى 1.5 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً، على نطاق عالمي وبذات القدر الذي رأيناه من الإلحاح والعجلة خلال جائحة “كوفيد-19″؟
  2. كيف بالإمكان “تقليل تكاليف المرحلة الانتقالية لعملية التخلص من الكربون بحدود 500 مليار دولار إلى ترليون دولار من أصل 5 ترليونات دولار يُفترض إنفاقها سنوياً عبر الابتكار التكنولوجي وخيارات المحافظ الذكية؟
  3. كيف بالإمكان “تمويل تكلفة عملية التحول في مجال الطاقة وتسهيل هذه العملية”، من دولة إلى أخرى، ومن قطاع إلى آخر، بطريقة لا تؤدي إلى خنق النمو.
  4. كيف بالإمكان “إعادة تأهيل وإعادة توظيف أكثر من 100 مليون عامل ينشطون في القطاعات الراكدة أو الآخذة بالتقلص نتيجة للتغير التكنولوجي، بما في ذلك ملايين الأشخاص الذين سيُستبدلون بسبب عمليات التحول في مجالات الطاقة؟
  5. كيف بالإمكان تعزيز العقد الاجتماعي من خلال “تلبية الاحتياجات الأساسية للأسر الوسيطة”، بما في ذلك توفير الإسكان، والرعاية الصحية، والطاقة بتكلفة ميسّرة – وهي احتياجات غير ملبّاة بالنسبة للعديد من هذه العائلات في الاقتصادات المتقدمة والنامية على حد سواء – بطريقة تجتذب الابتكارات والمعروض من القطاع الخاص؟
  6. كيف بالإمكان “دعم الشرائح السكانية الأكثر هشاشة – مثل أفقر 20% من سكان العالم – التي تعاني من مشاكل في الحصول على أشياء مثل التغذية، والمياه، والطاقة، والتعليم، ورأس المال المالي، كما تعاني من أسعارها غير الميسّرة.

سوف تُسهِمُ الإجابة عن هذه الأسئلة الستة في مواجهة القوى المعارِضة المذكورة أعلاه ونفي تأثيرها، وسوف تسمح للدائرة الحميدة أن تمضي قدماً دون أن يعترض سبيلها أي شيء. غير أن هناك عقبات هامة مرتبطة بالحوافز تقف حجر عثرة في الطريق. أولاً، هناك ما أسماه مارك كارني “مأساة الآفاق“، حيث يجب على قادة اليوم جماعياً اتخاذ الإجراءات المطلوبة اليوم لتحقيق العوائد التي لن تحصل إلا مع مرور الوقت. ثانياً، هناك مأساة العموم، فلاتخاذ إجراءات جماعية فيما يخص الاستدامة البيئية، فإن جميع الأطراف المعنية يجب أن تنظر إلى أبعد من مصالحها الذاتية وأن تحارب من أجل الصالح العام.

ليس بوسع أي جهة صاحبة مصلحة أن تحل جميع هذه المشاكل بمفردها. ومن الضروري وجود خارطة طريقة واضحة تحظى بالدعم من الآخرين، ووجود إطار للحوافز يوازن بين الآفاق الزمنية والمصالح على المدى القصير والآفاق الزمنية والمصالح على المدى البعيد ضمن مختلف عناصر سلسلة القيمة، وفي مختلف القطاعات الاقتصادية، والدول، والمناطق. وكما هو الحال مع الجائحة، فإن مواجهة هذه التحديات بنجاح سوف يتطلب عدة تجارب، وسرعة غير مسبوقة في نشر التجارب الناجحة على نطاق واسع، ومشاركة عريضة في مختلف القطاعات.

ستحتاج الحكومات إلى تنظيم عملية انتقالية تتسم بالمرونة من أجل التعامل مع المخاطر، والتخفيف من التكاليف، وتجنّب تصاعد الأزمات كنتيجة للإجراءات المتخذة. وفي الجانب المتعلق بقطاع الأعمال والشركات، سوف يكون عدد أكبر من الشركات والرؤساء التنفيذيين بحاجة إلى اقتحام الميدان، من أجل التفاعل بعمق مع عملية تصميم السياسات، والإسهام بمعارفهم المستمدة من السوق. كما أنهم سيكونون بحاجة إلى التمتع بالانفتاح والواقعية فيما يخص التحديات، ووضع أهداف طموحة بغية ترك أثر إيجابي على زبائنهم، وقواهم العاملة، ومجتمعاتهم، والبيئة. وبالإمكان الاستفادة من قدرتهم على الابتكار، بل لا بد من ذلك من أجل توسيع حدود الممكن والمساعدة في تحقيق الأشياء التي قد تبدو غير قابلة للتحقيق. فإذا لم تُحسِن الشركات التفاعل وبصدق، فإن الأجيال الأصغر عمراً من العمال سوف تعرّضها للمساءلة.

تُعتبر فكرة تحقيق مستقبل يتصف بالاستدامة، والشمول، والنمو معاً فكرة شديدة الإلحاح إلى حد أن قادة اليوم مدينون للأجيال المستقبلية بالتحرك الفوري.

عندما يتعلق الأمر بتحقيق نمو مستدام وشامل، فإن الخطوة الأولى الحاسمة تقتضي الاعتراف الكامل بالحلقات المُعزّزة والحلقات المعارِضة معاً. بعدها يجب أن ينتقل النقاش من الاتفاق على المستهدفات – بالنسبة للأشخاص الذين لا يوافقون على هذه الرؤية المغرية – إلى فهم كيفية حل المشاكل الصعبة التي تقف حجر عثرة.

من جانبنا، وضعنا فرضياتنا الخاصة بهذه المشاكل على رأس جدول أعمالنا البحثي ونتطلع قُدُماً إلى تعلّم المزيد من قادة المؤسسات العالمية التي نعمل معها وهم الذين يُحدِثون فَرْقَاً كبيراً في هذا الكون الرحب من خلال النمو المستدام والشامل. ونأمل أن تسهم الطرق التي عرضنا بها القوى والقوى المعارِضة هنا في تعزيز فهمنا الجماعي. فبهذا، قد يكون من الممكن البدء بالتحرك نحو اقتصاد عالمي مستدام، وشامل، ويتصف بالنمو.

فإذا لم نركّز على النمو والاستدامة والشمول معاً، فإننا لن نحقق الغاية المرجوة.

يرغب المؤلفون في أن يتقدّموا بالشكر إلى كل من بيتر غامبل ودانييل باكتهود على إسهاماتهما في هذه المقالة التي تُعتبرُ الأولى ضمن سلسلة مقالات مخصصة للنمو المستدام والشامل.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .