التنوع العصبي كميزة تنافسية

17 دقيقة
الميزة التنافسية للتنوع العصبي
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

نعرّفكم على جون، عبقري تحليلات البيانات الذي يمتلك قدرات غير عادية تمزج بين الذكاء الرياضي ومهارة تطوير البرمجيات إضافة إلى اطلاعه على موضوع الميزة التنافسية للتنوع العصبي. تحتوي سيرته الذاتية على درجتي ماجستير، كلتيهما مع مرتبة الشرف. موهبة لا تتكرر كثيراً تتمنى أي شركة تكنولوجيا الحصول على خدماته.

كان الوضع خلاف ذلك حتى وقت قريب، فقبل عثور جون على شركة بدأت تجربة أساليب بديلة لاستقطاب المواهب، ظل عاطلاً عن العمل لأكثر من عامين، وإن كان هذا لا ينفي أن الشركات الأخرى التي قدم فيها أوراقه كانت في أمس الحاجة إلى المهارات التي يمتلكها، لكنه لم يستطع اجتياز عملية التوظيف.

لو راقبت جون مدة من الزمن لعرفت السبب؛ إذ يبدو مختلفاً بعض الشيء، يرتدي سماعات الرأس طوال الوقت، وإذا تحدث معه أحدهم، لا ينظر إليه بصورة مباشرة. يميل كل 10 دقائق تقريباً إلى الأمام؛ ليشد أربطة الحذاء، فهو لا يستطيع التركيز وهي مفكوكة. أما إذا كانت مُحكمة الربط، فستجد أن جون الموظف الأكثر إنتاجية في الإدارة. وهو يمتاز بالاجتهاد في العمل، حتى إنه يرفض الاستراحة رفضاً باتاً، وعلى الرغم من أن “رفيقه” في العمل نجح أخيراً في إقناعه بأخذ الاستراحات، فإنه لا يستمتع بها.

يعتبر “جون” مزيجاً مركباً من الأشخاص الذين أردنا حماية خصوصيتهم، هؤلاء الذين يعانون من اضطراب طيف التوحد؛ وهو يمثل المشاركين في برامج الشركات الرائدة التي بدأت البحث عن المواهب “المتنوعة عصبياً”.

مرض التوحد في الولايات المتحدة الأميركية

هناك الكثير من أمثال جون، ولك أن تعرف أن نسبة الإصابة بمرض التوحد في الولايات المتحدة في عام 2017 بلغت 1 بين كل 42 ولداً، وبلغت 1 بين كل 189 فتاة، وفقاً لمراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها. وعلى الرغم من أن برامج الشركات تركز حتى الآن بصورة أساسية على المصابين بالتوحد، فإنه يجب توسيع نطاقها بحيث تشمل المصابين بالديسبراكسيا (dyspraxia) (اضطراب حركي ناجم عن مشكلات عصبية) وعسر القراءة واضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، والرهاب الاجتماعي، وغيرها من الحالات. كثير ممن يعانون من هذه الاضطرابات يمتلكون قدرات أعلى من الأشخاص العاديين؛ فقد أثبتت الأبحاث أن بعض المصابين بهذه الاضطرابات، بما في ذلك التوحد وعسر القراءة، يستطيعون إظهار مهارات خاصة في التعرف على الأنماط أو الذاكرة أو الرياضيات، بيد أنهم كثيراً ما يجدون صعوبات في مواءمة المواصفات التي يبحث عنها أصحاب العمل المحتملين.

يحتاج الأشخاص المتنوعون عصبياً إلى تجهيزات خاصة في أماكن العمل، مثل سمّاعات الرأس لمنع تسلل المنبهات السمعية المفرطة، وتفعيل قدراتهم أو تحقيق أقصى استفادة ممكنة منها. قد يُبدون في بعض الأحيان سلوكيات غريبة الأطوار يصعب التعامل معها، وفي كثير من الحالات، يمكن تدبر أمر التجهيزات الخاصة والتعامل مع التحديات، وعندها ستكون النتائج المحتملة رائعة. ولكن للحصول على المزايا المرجوة، يتعين على معظم الشركات تعديل سياسات التوظيف والاختيار والتطوير الوظيفي، بحيث تعكس المفهوم الأشمل للمواهب.

ويتزايد عدد الشركات المرموقة التي تحرص على إصلاح آليات عمل أقسام الموارد البشرية بها بغرض استقطاب المواهب المتنوعة عصبياً؛ وعلى رأسها شركة “ساب” (SAP) و”هيوليت باكارد إنتربرايز” (HPE) و”مايكروسوفت” و”ويليز تاورز واتسون” (Willis Towers Watson) و”فورد” و”إرنست آند يونغ” (EY)؛ فيما يبذل العديد من الشركات الأخرى جهوداً تمهيدية أو استكشافية، ومن بينها شركة “كاتربيلر” و”ديل تكنولوجيز” و”ديلويت” و”آي بي إم” وبنك “جيه بي مورغان تشيس” وبنك “يو بي إس” (UBS). واستطعنا الاطلاع بصورة موسعة على برامج التنوع العصبي في كلٍّ من شركة “ساب” و”هيوليت باكارد إنتربرايز” و”سبيشاليستيرن” (Specialisterne) (شركة استشارية دنماركية دشنت برامج كهذه) إلى جانب تفاعلنا مع بعض العاملين في كلّ من “مايكروسوفت” و”ويليز تاورز واتسو” و”إرنست آند يونغ”.

وعلى الرغم من أن هذه البرامج لا تزال في مراحلها المبكرة – فلم يمضِ سوى أربعة أعوام فقط على تدشين برنامج شركة “ساب”، وهو أقدم البرامج التي لا تزال قيد التشغيل بين الشركات الكبرى – فإن المدراء يقولون إنها تحقق نتائج إيجابية بصورة تتجاوز حد تلميع السمعة؛ ومن أهم إيجابياتها زيادة الإنتاجية وتحسين الجودة وتعزيز القدرات الإبداعية وتحقيق زيادات ملموسة في اندماج الموظفين. يقول نيك ويلسون، المدير الإداري لشركة “هيوليت باكارد إنتربرايز ساوث باسيفيك” (HPE South Pacific) التي تمتلك واحداً من أكبر البرامج في هذا الميدان، إن هذه المبادرة تتفرد من بين كل المبادرات الأخرى في شركته من حيث مزاياها على مستوى العديد من الأصعدة.

ولعل الميزة الأكثر إثارة للدهشة هي أن المدراء بدؤوا يفكرون بصورة أعمق في إمكانية الاستفادة من مواهب جميع الموظفين من خلال رفع مستوى الوعي بالاحتياجات الفردية. يقول سيلفيو بيسا، النائب الأول لرئيس شركة “ساب” لخدمات الأعمال الرقمية، إن برنامج الشركة “يفرض عليك التعرف على الفرد بصورة أدق، حتى تعرف كيفية إدارته. لقد جعلني مديراً أفضل بلا شك”.

لماذا يتيح التنوع العصبي فرصاً مواتية؟

يقول جون إلدر روبيسون، الباحث المقيم، ورئيس “مجموعة عمل التنوع العصبي” (Neurodiversity Working Group) بالمشاركة في “كلية وليام آند ماري” (College of William & Mary)، في إحدى المدونات على الموقع الإلكتروني لمجلة “علم النفس اليوم” (Psychology Today): “يستند التنوع العصبي إلى فكرة أن الاختلافات العصبية، مثل التوحد واضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، هي نتيجة الاختلاف الطبيعي والعادي في الجينوم البشري”. يضيف روبيسون، الذي يعاني هو نفسه من متلازمة أسبرجر: “في الواقع، يؤمن الكثير من الأفراد الذين يتبنون مفهوم التنوع العصبي بأن الأشخاص الذين لديهم اختلافات لا يحتاجون إلى علاج؛ لكنهم بحاجة إلى المساعدة وبعض التجهيزات الخاصة”. ونحن نوافقه في هذا الرأي تماماً.

يتمتع الجميع إلى حد ما بقدرات مختلفة (تعبير يفضله كثير من الأشخاص المتنوعين عصبياً)؛ لأننا جميعاً نُولد مختلفين وننشأ نشأة مختلفة، وتتأثر أساليبنا في التفكير بكل من “الآليات” الوراثية والتجارب التي “برمجت” أدمغتنا.

معظم المدراء على دراية بالمزايا التي يمكن للمؤسسات حصدها من تنويع الخلفيات والوسائل التدريبية والأنواع والثقافات وغيرها من السمات الفردية للموظفين. والمزايا المستمدة من التنوع العصبي مشابهة لغيرها، ولكنها أكثر مباشرة. فنظراً لأن الأشخاص المتنوعين عصبياً مبرمجون بشكل مختلف عن الأشخاص “الطبيعيين عصبياً”، فقد يجلبون تصورات جديدة لجهود الشركات لخلق قيمة مضافة أو إدراكها. ففي شركة “هيوليت باكارد إنتربرايز”، لاحظ الموظفون المتنوعون عصبياً المختصون باختبار البرمجيات أن مشاريع أحد العملاء تبدو دائماً في وضع الأزمة قبل طرح البرامج. ونظراً لعدم تسامحهم مع الفوضى، فقد شككوا بقوة في قبول الشركة الظاهر للفوضى، وهو ما أدى إلى إدراك الشركة العميلة أنها باتت متسامحة أكثر من اللازم مع هذه الأزمات، والنجاح في إعادة تصميم عملية الطرح بمساعدة من المختبرين، حيث انتهز أحد المحللين المتنوعين عصبياً لدعم الزبائن في شركة “ساب” فرصة للسماح للزبائن بالمساعدة في حل مشكلة شائعة بأنفسهم؛ واستخدم الآلاف منهم فيما بعد الموارد التي أنشأها.

وعلى الرغم من ذلك، لا يزال أغلب السكان المتنوعين عصبياً يشكلون مواهب غير مستغلة، إذ يبلغ معدل البطالة بينهم نحو 80% (ويشتمل هذا الرقم على الأشخاص الذين يُعانون من اضطرابات أكثر حدة وليسوا مرشحين للانضمام إلى برامج التنوع العصبي). وإذا وجدوا فرصة عمل، فغالباً ما تتحول حتى أبرع الكوادر المتنوعة عصبياً إلى بطالة مقنعة. وكم حكى لنا المشاركون في البرنامج كثيراً من القصص عن اضطرارهم في السابق إلى قبول وظائف يرفضها آخرون بعد تخرجهم في المدارس الثانوية، على الرغم من امتلاكهم مؤهلات معتمدة. فعندما بدأت شركة “ساب” برنامج “التوحد في العمل” (Autism at Work)، كان من بين المتقدمين له مجموعة من الأشخاص الذين حصلوا على درجة الماجستير في الهندسة الكهربائية والإحصاء الحيوي والإحصاء الاقتصادي والأنثروبولوجيا ودرجة البكالوريوس في علوم الكمبيوتر والرياضيات التطبيقية والحاسوبية والهندسة الكهربائية والفيزياء الهندسية. وكان بعضهم حاصلين على درجتين علميتين، وحصل كثير منهم على درجات علمية مرموقة، وحصلوا على مرتبة الشرف وغيرها من الألقاب الرفيعة عند تخرجهم. ولدى أحدهم براءات اختراع.

مؤهلات الأشخاص المصابين بمرض التوحد

وليس غريباً أن يتمكن الأشخاص الذين يُعانون من التوحد ويتمتعون بمختلف المؤهلات العليا من الحصول على عمل، فمنهم من يثبت كفاءته بمرور الأيام، ومنهم من يبرع في عمله فعلياً. وعلى مدى العامين الماضيين، نجح برنامج “هيوليت-باكارد إنتربرايز” (آتش بي) في تعيين أكثر من 30 مشاركاً في وظائف اختبار البرمجيات بوزارة الخدمات الإنسانية الأسترالية، وتُشير النتائج الأولية إلى أن فرق الاختبار المشكّلة من أشخاص متنوعين عصبياً أكثر إنتاجاً بنحو 30% مقارنة بغيرهم.

مستلهمة نجاحات البرنامج بوزارة الخدمات الإنسانية، عكفت وزارة الدفاع الأسترالية على تطوير برنامج للتنوع العصبي في مجال الأمن السيبراني بالتعاون مع “هيوليت-باكارد إنتربرايز”؛ وذلك لاستغلال قدرات المشاركين الفائقة على اكتشاف الأنماط وتوظيفها في مهمات مثل فحص السجلات وغيرها من مصادر البيانات الفوضوية بحثاً عن علامات الاختراق أو الهجوم. وعثرت الوزارة على مرشحين يمتلكون قدرات متميزة في هذا المضمار.

تبدو فكرة توظيف المتنوعين عصبياً فكرةً مُقنعة إلى حدٍّ بعيد، خاصة مع تفشي ظاهرة نقص المهارات التي يعاني منها قطاع التكنولوجيا وغيره من القطاعات. فعلى سبيل المثال، ووفقاً لإحدى الدراسات التي أجرتها المفوضية الأوروبية، يواجه الاتحاد الأوروبي نقصاً في العمالة وصل إلى 800,000 متخصص في مجال تقنية المعلومات بحلول عام 2020. ومن المتوقع أن تكون أكثر حالات العجز في المجالات ذات الأهمية الاستراتيجية وسريعة التوسع، مثل تحليل البيانات وتنفيذ خدمات تكنولوجيا المعلومات التي تتوافق مهماتها مع قدرات بعض الأشخاص المتنوعين عصبياً.

لماذا لا تستغل الشركات مواهب المتنوعين عصبياً؟

ما الذي يمنع الكثير من الشركات من التعامل مع أشخاص يمتلكون مهارات تحتاجها بشدة؟ يتلخص السبب في طريقة عثورها على المواهب واختبارهم، وتقرير من تُوظفه (وترقّيه).

تُركز آليات عمل إدارة الموارد البشرية على التطبيق واسع المجال داخل المؤسسة خاصة في كبرى الشركات. إلا أن هناك تعارضاً بين قابلية التوسّع وهدف الحصول على المواهب المُتنوعة عصبياً. تقول أنكا فيتنبرغ، كبيرة مسؤولي التنوع والاندماج لدى شركة “ساب”: “تركز الشركة على وجود آلية عمل قابلة للتطوير بقسم الموارد البشرية، ومع ذلك، إن أردنا استخدام آليات العمل نفسها مع الجميع، فسوف نخسر الأشخاص المصابين بالتوحد”.

علاوة على ذلك، تتعارض سلوكيات العديد من الأشخاص المتنوعين عصبياً مع الأفكار الشائعة حول مؤهلات الموظف متميزاً –كمهارات التواصل المتقنة، وروح العمل الجماعي، والذكاء العاطفي، والقدرة على الإقناع، وامتلاك شخصية مندوب المبيعات، والقدرة على التعارف، والقدرة على التواؤم مع الممارسات القياسية دون تجهيزات خاصة، وما إلى ذلك. ومن شأن هذه المعايير أن تستبعد الأشخاص المتنوعين عصبياً بصورة تلقائية.

لكنها لا تشكل الطريقة الوحيدة لإيجاد قيمة مضافة. في حقيقة الأمر وخلال العقود الأخيرة، أصبحت القدرة على المنافسة على أساس الابتكار أكثر أهمية بالنسبة للعديد من الشركات. والابتكار يستلزم من الشركات إضافة عنصر التنوع إلى مزيج العاملين به -بحيث يضم أفكاراً وأشخاصاً “ذوي طابع مختلف”، وهو ما أشارت إليه شركة “ساب” في بيانها الصحفي عند الإعلان عن برنامجها. يقول بيسا إن وجود أشخاص ينظرون إلى الأشياء من زاوية مختلفة وربما يصعب تطويعهم “يساعد على موازنة نزعتنا، كشركة كبيرة، إلى أن يسير الجميع في الاتجاه نفسه”.

قد يُعتقد أن المؤسسات يمكنها البحث ببساطة عن مزيد من التنوع بين الموظفين المحتملين، في ظل استمرار آليات الاختبار والتوظيف وسُبل التطوير التقليدية. ويتبع هذا النهج الكثيرون ممن لا يزالون يعملون تحت إشراف مدراء يطبقون أسلوب الإدارة الهرمية، من الاستراتيجيات إلى القدرات اللازمة، ويُترجمون ذلك إلى أدوار تنظيمية وتوصيفات وظيفية وقوائم توظيف مرجعية. إلا أن هناك مشكلتين كبيرتين تجعلهم يفتقدون المواهب المتنوعة عصبياً.

تتلخص المشكلة الأولى في ممارسة تكاد تكون عالمية في إطار النهج التقليدي: وهي إجراء المقابلات. وعلى الرغم من أن الأشخاص المتنوعين عصبياً قد يتفوقون في مواطن مهمة، إلا أن الكثير منهم لا يبلون بلاءً حسناً في المقابلات. على سبيل المثال، بالنسبة للأشخاص المصابين بالتوحد ممن يفتقدون في الغالب إلى القدرة على التواصل الجيد بالعين، فإنهم يميلون إلى الظلال التحادثية ويمكن أن يتحدثوا عن نقاط ضعفهم بصدق أكثر من غيرهم. وقد يعاني البعض من مشكلات الثقة بالنفس الناشئة عن الصعوبات التي واجهوها في المقابلة السابقة. فمن غير المرجح أن يحصد الأشخاص المتنوعون عصبياً درجات عالية في المقابلات الشخصية، مقارنة بالمرشحين الطبيعيين عصبياً حتى إن كانوا أقل منهم موهبة. وتوصلت شركتا “ساب” و”هيوليت-باكارد إنتربرايز” إلى أن الأمر قد يستغرق مجموعة أسابيع أو أشهراً لاكتشاف مدى جودة بعض المشاركين في البرنامج (أو حدود قدراتهم، وهي مسألة لا تقل أهمية). ولحسن الحظ لا تُشكل المقابلات الطريقة الوحيدة لتقييم مدى ملاءمة المرشحين للوظائف الشاغرة.

أما المشكلة الثانية، فتشيع بين الشركات الكبيرة بشكل خاص، وتُستمد من افتراض أن العمليات القابلة للتطوير تتطلب المطابقة التامة للمنهجيات الموحدة. وكما ذكرنا سابقاً، يحتاج الموظفون في برامج التنوع العصبي عادةً إلى السماح لهم بالانحراف عن الممارسات المتبعة. وهذا بدوره يُغيّر اتجاه المدير من ضمان الامتثال عبر التوحيد القياسي إلى ضبط سياقات العمل بما يناسب الاحتياجات الفردية، فمعظم التجهيزات ليست باهظة الثمن، مثل تركيب إضاءة مختلفة وتوفير سمّاعات رأس للتخلص من الضوضاء. إلا أنهم يحتاجون إلى اضطلاع المدراء بإعداد تجهيزات مكان العمل بما يلائم الاحتياجات الفردية أكثر منهم.

كيف يُغيّر الرواد لعبة إدارة المواهب؟

يحفل قطاع التكنولوجيا بوقائع توظيف غريبي الأطوار. فقد أصبح الطالب المتفوق الموهوب الذي يفتقر إلى اللباقة الاجتماعية أيقونة ثقافية، بقدر ما هو جزء من أساطير القطاع كالشركات التي تبدأ في مرآب. يشير ستيف سيلبرمان في كتابه “قبائل العصبية” (NeuroTribes) إلى ارتفاع معدل ظهور المصابين بمرض التوحد في أماكن، مثل وادي السيليكون (لأسباب غير مفهومة تماماً)، حيث افترض سيلبرمان وآخرون أن العديد من “غريبي الأطوار” و”المتفوقين الذين يفتقرون إلى اللباقة الاجتماعية” في القطاع ربما كانوا “على طيف التوحد” على الرغم من عدم تشخيصهم. وعليه، يكون توظيف المتنوعين عصبياً امتداداً لاتجاهات الثقافة التي تدرك قيمة المتفوقين الذين يفتقرون إلى اللباقة الاجتماعية.

خلال السنوات الأخيرة، قامت بعض الشركات الرائدة بإضفاء الطابع الرسمي والمهني على تلك الاتجاهات. وعلى الرغم من تنوع برامجهم، فإن لديهم عناصر مشتركة؛ لأنها تعتمد على مجموعة المعرفة التي تم تطويرها في “سبيشيال إسترن” (Specialisterne). أسس ثوركيل سون المؤسسة في عام 2004، بعد تشخيص طفله الثالث بمرض التوحد. وعلى مدار السنوات القليلة التالية، طورت المؤسسة وتبنت أساليب لا تقوم على إجراء المقابلات بغرض تقييم المواهب المتنوعة عصبياً وتدريبها وإدارتها، وأثبتت جدوى نموذجها من خلال إدارة شركة ناجحة تهدف للربح من خلال التركيز على اختبار البرمجيات.

الابتكار يستلزم من الشركات تبني أفكار وأشخاص “ذوي طابع مختلف”

لم يكن سون راضياً عن معدل الوظائف الذي يمكن لشركته توفيره، وهو ما دفعه إلى تأسيس مؤسسة “سبيشيالست بيبول فاونديشن” (Specialist People Foundation) للأشخاص المتخصصين (التي أُطلق عليها اسم “سبيشاليستيرن فاونديشن”) عام 2008 بغرض نشر خبرة شركته الفنية للآخرين وإقناع الشركات متعددة الجنسيات بطرح برامج التنوع العصبي. وقد عملت معظم الشركات التي تبنت هذا الاتجاه مع المؤسسة لنشر بعض منهجيات مؤسسة “سبيشاليستيرن”، وذلك من خلال 7 عناصر رئيسة:

فريق مكوّن من “شركاء اجتماعيين” لتعويض الخبرة التي تفتقر إليها

لنفرض أن مدراء إحدى شركات التكنولوجيا يعرفون الكثير من الأمور، غير أنهم عادة ما تنقصهم الخبرة في التعامل مع مرضى التوحد أو غيره من أشكال التنوع العصبي. ولأسباب وجيهة مُتعددة، تتردد الشركات في توسيع نطاق أنشطتها لتشمل حياة الموظفين الخاصة، حيث إن الأشخاص المتنوعين عصبياً قد يحتاجون إلى مساعدة إضافية.

لسد هذه الفجوات، دخلت الشركات التي درسناها في علاقات مع “شركاء اجتماعيين” ومؤسسات حكومية أو غير ربحية معنية بمساعدة أصحاب الهمم في الحصول على فرص عمل. إذ عملت شركة “ساب” مع إدارة إعادة التأهيل في كاليفورنيا ومكتب بنسلفانيا للتأهيل المهني ومؤسستي “إكسباندبليتي” (EXPANDability) و”أرك” (Arc) غير الهادفتين للربح بالولايات المتحدة، بالإضافة إلى عدد من الوكالات الخارجية، مثل “إنيبل إنديا” (EnAble India) بالهند، في حين عملت شركة “هيوليت-باكارد إنتربرايز” مع منظمة “أوتيزم إس إيه” (Autism SA) بجنوب أستراليا. تعمل مثل هذه المجموعات على مساعدة الشركات على التعامل مع قوانين التوظيف المحلية التي تنطبق على أصحاب الهمم، وتقترح مرشحين من قوائم الأشخاص المتنوعين عصبياً الباحثين عن فرص عمل، كما تساعد في عمليات الفحص المُسبق، وترتيب التمويل الحكومي للتدريب، وتتولى إدارة التدريب في بعض الأحيان، وتوفر الإرشاد والدعم المستمر (خاصة بعد ساعات العمل الرسمية) واللازم لضمان نجاح الموظفين المتنوعين عصبياً. وفي ألمانيا، استطاعوا إدراك فوائد الانتقال من تقديم المساعدة العامة للأشخاص إلى توفير وظائف تدرّ إيرادات ضريبية، وهو ما ترتب عليه وجود خطط ممولة حكومياً لدعم استبقاء الموظفين المتنوعين عصبياً. وعلى الرغم من تفاوت تقديرات الفوائد المترتبة على المكاسب التي تحققها الحكومة من خلال تحويل هؤلاء الأشخاص إلى عمال تكنولوجيا يدفعون الضرائب، إلا إنها تبلغ في كثير من الأحيان حوالي 50 ألف دولار للفرد الواحد سنوياً.

الاستعانة بعمليات التقييم والتدريب غير التقليدية وغير القائمة على المقابلة.

تحقيقاً لهذه الغاية، أنشأت مؤسسة “سبيشاليستيرن” ما يمكن أن يطلق عليه “ملتقيات” –وهي عبارة عن تجمعات تتوافر فيها سبل الراحة، وغالباً ما تدوم لنصف يوم، حيث يُمكن للمرشحين لشغل الوظائف من الأشخاص المتنوعين عصبياً إثبات قدراتهم في التفاعلات العادية مع مدراء الشركة. وفي نهاية الملتقيات، يتم اختيار بعض المرشحين لمدة تتراوح ما بين أسبوعين إلى ستة أسابيع لمزيد من التقييم والتدريب (تختلف هذه المدة من شركة إلى أخرى). وفي هذه الأثناء، يستخدمون مجموعة أدوات الإنشاء والبرمجة الروبوتية من “ليغو مايندستورمز” (Lego Mindstorms) للعمل على المشاريع المسندة بصورة فردية في البداية، ثم في مجموعات، حيث تصير المشاريع أكثر شبهاً بالعمل الحقيقي مع استمرار العملية. وتعقد بعض الشركات جلسات إضافية، فقد أنشأت شركة “ساب”، على سبيل المثال، وحدة “المهارات الشخصية” لمساعدة المرشحين ممن لم يعملوا قط في بيئة مهنية على التعرف على معاييرها. وتُمول هذه الجهود عادة بمعرفة الحكومة أو المؤسسات غير الربحية، وعادة ما تُدفع مبالغ مالية للمتدربين.

وعلى الرغم من الصعوبات الاجتماعية التي يواجهها العديد من الأشخاص المتنوعين عصبياً، فإن المرشحين غالباً ما يُظهرون قدراً كبيراً من السلوكيات التعاونية والداعمة خلال فترة التقييم. فقد طُلِب من المجموعات المشاركة في هذه العمليات بشركة “هيوليت-باكارد إنتربرايز”، على سبيل المثال، ابتكار نظام روبوتي يمكن الاعتماد عليه لتوزيع الأقراص. وخلال عرض الحلول، توقف أحد المرشحين قائلاً: “معذرة، لا يُمكنني فعلها، لقد اختلط عليّ الأمر برمته” فسارع زملاؤه المتنوعون عصبياً في الفريق إلى تهدئته والتفوا حوله وطمئنوه حتى تمكّن من الانتهاء منه.

بعد تمديد عملية التقييم، تبيّن أن مثل هذه البرامج تسمح بإبراز قدرات المرشحين بمرور الوقت. وهناك بطبيعة الحال سبل أخرى للوقوف على هذه القدرات. وقد بدأت شركة “هيوليت-باكارد إنتربرايز” استخدام التدريب الداخلي الذي يتضمن عناصر مماثلة.

تدريب عمال ومدراء آخرين

تُسهم الجلسات التدريبية القصيرة (تصل مدة بعضها إلى نصف يوم) المصغرة في مساعدة الموظفين الحاليين على فهم ما يمكن توقعه من زملائهم الجدد الذين قد يحتاجون، على سبيل المثال، إلى تجهيزات خاصة والذين قد يبدون مختلفين عنهم بعض الشيء. في حين يتلقى المدراء تدريبات مكثفة إلى حد ما لتعريفهم بمصادر الدعم التي يمكنهم توفيرها لموظفي البرنامج.

إعداد منظومة داعمة

تُصمم الشركات التي تتبنى برامج التنوع العصبي أنظمة مبسطة لدعم موظفيها الجدد، وتلتزم بها. وتخصص شركة “ساب” دائرتي دعم، تختص إحداهما بمكان العمل، بينما تختص الأخرى بحياة الموظف الشخصية. تتضمن دائرة دعم مكان العمل كلاً من مدير الفريق ومنسق الفريق ومدرب المهارات الحياتية والوظيفية ومرشد العمل وممثل الموارد البشرية الذي يُشرف على مجموعة من المشاركين في البرنامج. ويتم اختيار منسقي الفريق من بين أفراد الفريق أنفسهم الذين يقدمون المساعدة في المهمات اليومية وإدارة أعباء العمل وتحديد الأولويات. في حين يتم اختيار مدرب المهارات الحياتية والوظيفية في أغلب الأحيان من منظمات اجتماعية شريكة. وتشمل أدوار الشريك الاجتماعي الأخرى مستشار التأهيل المهني والمستشار الشخصي. وعادة ما تقدم أُسر الموظفين الدعم أيضاً.

تنتهج شركة “هيوليت-باكارد إنتربرايز” نهجاً مختلفاً، فهي تضع الموظفين المتنوعين عصبياً في “حاضنات” تضم ما يقرب من 15 شخصاً يعملون مع زملاء طبيعيين بنسبة 1:4 تقريباً، بينما يُكلف مديران واستشاري واحد بمعالجة المُشكلات المرتبطة بالتنوع العصبي.

الأساليب المُصممة خصيصاً لإدارة المسارات المهنية

يحتاج الموظفون الذين جرى توظيفهم من خلال هذه البرامج إلى مسارات مهنية طويلة الأجل، كما هو الحال مع غيرهم من العاملين، وهذا يتطلب تفكيراً جاداً في التقييم والتطوير المتواصلين، الذي يراعي بدوره الظروف الخاصة لتوظيف المتنوعين عصبياً. ولحسن الحظ، يتزايد الوعي لدى المشرفين بمواهب موظفي البرامج والعراقيل المفروضة عليهم بمرور الوقت، حيث يخضع المشاركون لتقييمات الأداء نفسها التي يخضع لها باقي الموظفين، إلا أن المدراء يعملون ضمن هذه الآليات لوضع أهداف خاصة. وعلى الرغم من أن بعض الأهداف قد ترتبط بظروف المشاركين، فإنه لا يُسمح بصرف أي بدلات مقابل الأداء غير المُرضي. وعلى كل، لا بد للموظفين المتنوعين عصبياً استيفاء متطلبات أكثر من غيرهم، إذ يتعيّن عليهم استيفاء أهداف البرنامج إلى جانب أهداف الأداء المتوقعة من أي شخص في دوره الوظيفي.

سرعان ما يبرهن بعض المشاركين على إمكانية الاندماج في المسار الرئيسي للمؤسسة وتحقيق مزيد من التقدم في مساراتهم المهنية. وقد صُممت حاضنات “هيوليت-باكارد إنتربرايز” بحيث توفر بيئة آمنة تُمكّن المشاركين من اكتساب مهارات تتيح لهم تحقيق أعلى مستويات الأداء والانتقال من هذه الحاضنات إلى مزيد من فرص العمل الرئيسية في نهاية المطاف ارتفعت نسبة اندماج الموظفين في المجالات التي تختص بها برامج التنوع العصبي.

معايير قياس نجاح البرنامج

أعلنت شركة “ساب” في وقت سابق اعتزامها تخصيص 1% من قوتها العاملة للأشخاص المتنوعين عصبياً بحلول عام 2020، وقد اختيرت هذه النسبة في ذلك الحين؛ لأنها تتوافق مع النسبة المئوية للمصابين بالتوحد بين عموم السكان. كما تعمل “مايكروسوفت” و”هيوليت-باكارد إنتربرايز” وغيرهما على توسيع نطاق برامجها، على الرغم من رفضها وضع مستهدفات رقمية محددة. ومن السهولة بمكان توسيع نطاق التوظيف في هذه المجالات، مثل اختبار البرمجيات وإجراء التحليلات المحوسبة للأعمال والأمن السيبراني، التي تتناسب مهماتها مع المواهب المتنوعة عصبياً. إلا أن شركة “ساب” عينت أكثر من 100 من موظفي البرنامج في 18 منصباً وظيفياً. وقد قال لنا أحد المدراء: “تتلخص التوقعات الرئيسة بحسب فهمي في تركيز هؤلاء الزملاء في الأغلب على الأعمال المتكررة، مثل اختبار البرمجيات. إلا أنهم من الناحية العملية تمكنوا من إضافة قيمة لنطاق أكبر من المهمات”. تشمل هذه المهمات إدارة المنتجات التي تتضمن تنسيق تطوير عروض شركة “ساب” الجديدة؛ ومساعد خدمات الموارد البشرية الذي تقتضي مهمات منصبه تنظيم وتخطيط أنشطة الموارد البشرية؛ والاستشاري المعاون الذي تقتضي مهمات منصبه مساعدة العملاء على تطبيق حلول شركة “ساب” على المشاكل التي تواجه الأعمال؛ ودعم العملاء من خلال التواصل معهم عبر الهاتف لمساعدتهم على استخدام برمجيات الشركة. والواقع أن آخر مهمتين تُخالفان الافتراض القائل أن الأشخاص المصابين بالتوحد لا يمكنهم العمل في وظائف تتطلب مهارات اجتماعية.

وفي كل مرة تُوظف شركة “هيوليت-باكارد إنتربرايز” 9 أخصائيين من الأشخاص المتنوعين عصبياً في الحاضنات، لصالح مؤسسات العميل -وفي الواقع، تقوم ببيع مجموعة من القدرات المتقدمة المستمدة من التنوع العصبي. ويتمتع النموذج بإمكانات مثيرة للاهتمام، سواء بسبب توظيف العديد من العاملين مرة واحدة أو بسبب طلب العميل توسيع نطاق الوظائف المحتملة.

تعميم البرنامج

أسفر نجاح برامج التنوع العصبي عن تشجيع بعض الشركات على التفكير في مساوئ الآليات التقليدية المتبعة في أقسام الموارد البشرية والتي تؤدي إلى حرمان المؤسسات من مواهب عالية الجودة. ومن هذا المنطلق تعكف شركة “ساب” على إجراء مراجعة للوقوف على آلية تتبنى نظرة أكثر شمولاً لعمليات الاختيار والتوظيف والتطوير. ويكمن الهدف المعلن لهذا البرنامج في جعل عمليات المواهب الرئيسة “صديقة للتنوع العصبي” إلى المدى الذي يمكّنها في النهاية من إنهاء برنامج التنوع العصبي. وتطمح “مايكروسوفت” إلى تحقيق الغاية نفسها.

جنت الشركات الكثير من المنافع بتنفيذها برامج التنوع العصبي. كانت بعضها منافع مباشرة: إذ غدت الشركات أقدر على إيجاد أفراد يمتلكون مواهب جيدة، بل ومتميزة، وتوظيفهم في مجالات تحتاج إلى مهارات يصعب العثور عليها. وقد أثر انخفاض معدلات العيوب وزيادة الإنتاجية إيجاباً في المنتجات والخدمات وصافي المبيعات. وأشارت شركتا “ساب” و”هيوليت-باكارد إنتربرايز” إلى أمثلة لموظفين متنوعين عصبياً يعملون ضمن فرق تحقق ابتكاراتٍ مهمة (قدم أحد موظفي شركة ساب حلاً تقنياً أسهم في توفير ما يُقدر بنحو 40 مليون دولار أميركي).

هناك أيضاً بعض المنافع غير المباشرة، فقد أفادنا أحد المسؤولين التنفيذيين بأن الجهود الرامية إلى جعل الاتصالات بين الشركات أكثر وضوحاً، من أجل تلافي الصعوبات التي يعاني منها الموظفون المصابون بالتوحد فيما يخص الفروق اللغوية البسيطة والأساليب الساخرة وغيرها من المعوقات اللغوية الدقيقة، قد أدت إلى تحسين سبل التواصل بشكل عام. وقد تسبب الهوس بالكمال لدى بعض حاضنات اختبار البرمجيات بشركة “هيوليت-باكارد إنتربرايز” في تشجيع بعض المؤسسات المتلقية للخدمات على الارتقاء بمستوى أدائها والتوقف عن النظر إلى مشكلات بعينها على أنها مشكلات لا مناص منها. وارتفعت نسبة اندماج الموظفين في المجالات الماسة ببرامج التنوع العصبي: وأوضح الأشخاص الطبيعيون عصبياً أن المشاركة تزيد من قيمة عملهم وترفع من روحهم المعنوية. كما ظهرت مؤشرات أولية توحي بأن موظفي البرنامج يقدرون الفرصة التي أُتيحت لهم أيما تقدير، وبالتالي يشعرون بالولاء للشركة، وتشهد معدلات الدوران الوظيفي فيما بينهم تراجعاً ملحوظاً.

أخيراً، تحقق هذه البرامج منافع تتعلق بالسمعة، حيث أشادت الأمم المتحدة بالشركات الرائدة في هذا المجال باعتبارها نموذجاً للإدارة المسؤولة، ومُنحت جوائز عالمية في مجال المواطنة العالمية للشركات.

التحديات الماثلة أمام الموظفين المتنوعين عصبياً

لا ريب أن الشركات التي تعمل على تنفيذ برامج التنوع العصبي قد واجهت بعض التحديات. ويصعب تحديد المرشحين المحتملين على الرغم من وجود الكثير منهم، حيث تمتنع الجامعات عن تصنيف الطلاب من حيث التنوع العصبي، تجنباً لإثارة قضايا تتعلق بالتمييز، علاوة على أن المرشحين المحتملين لا يقرون باختلافهم العصبي بالضرورة. واستجابة لذلك، تساعد شركة “هيوليت-باكارد إنتربرايز” الجامعات والمدارس الثانوية في إعداد برامج “الخبرات العملية” غير التقليدية للأشخاص المتنوعين عصبياً. وتشمل هذه البرامج ألعاب الفيديو والبرمجة الروبوتية وغيرها من الأنشطة، كما تعمل “مايكروسوفت” بالتعاون مع الجامعات لتحسين أساليب التعرف على المواهب المتنوعة عصبياً وإتاحة سبل الوصول إليها.

ثمة صعوبة أخرى شائعة تتمثل في شعور المُرشحين بالإحباط في حال لم يقع عليهم الاختيار للتوظيف، وهو ظرف حتمي لا بد من التعامل معه بحرص. وقد كتب أبوان رسالة إلى الرئيس التنفيذي لإحدى الشركات التي لم يكن ابنهما مؤهلاً للحصول على وظيفة بها، قالا فيها إن البرنامج أحيا آمالهما في أن يتمكن أخيراً من الحصول على وظيفة مناسبة، وأنهما بالطبع أصيبا بالإحباط لعدم اختياره. وشعر المسؤولون التنفيذيون بالقلق إزاء المشكلة المحتملة مع قسم العلاقات العامة. وأدت المناقشات الودية بين الوالدين ومدراء البرنامج -الذين ينتمي بعضهم إلى أسر واجهت قضايا مماثلة – في النهاية إلى تهدئة الموقف.

قد تظهر أيضاً على السطح مشكلات تتعلق بنزاهة وقواعد التعامل، ففي إحدى الحالات التي صادفناها، مُنح أحد المشاركين في البرنامج ممن يعانون صعوبات في فرط الإثارة مكتباً خاصاً به، في حين تكدس 4 آخرين بقسم مجاور في مكتب بالمساحة نفسها، وقدموا شكاوى بذلك، وبعد تفسير الأسباب الداعية إلى هذه المعاملة زالت أسباب الشكوى. كما نمى إلى علمنا حالات أثارت فيها الأمانة المفرطة لدى الأشخاص المصابين بالتوحد حالةً من الغضب، وفي إحدى هذه الحالات، قال أحد موظفي البرنامج لزميله: “أشتم رائحة كريهة في عملك”. ويساعد وجود المدراء والمراقبين على معالجة مثل هذه المواقف.

وقد أفاد بعض المشرفين بأن البرنامج أدى إلى تحملهم مزيداً من أعباء العمل. وعلى سبيل المثال، فإن هوس بعض المشاركين بالكمال أدى إلى صعوبة تحديد العيوب التي تستوجب الإصلاح وتلك التي لم تتطلب سوى توجيه إضافي من قبل هؤلاء الموظفين.

تُشكل إدارة توتر الموظفين المتنوعين عصبياً تحدياً آخر. وقد طالعنا تقارير تفيد بأن الأحداث غير المتوقعة وغير الخاضعة للسيطرة، مثل تعطل الأنظمة التي تدخل في إجراءات العمل الروتينية، تسببت في رفع مستويات القلق بين المشاركين بصورة غير عادية. وأكد العديد من الأشخاص الذين التقينا بهم ضرورة مراعاة التوترات التي يواجهها موظفو البرامج. وللسيطرة عليها، يعمل بعض المشاركين بدوام جزئي فقط، وهو ما يُمثل عقبة قد تتسبب فيما بعد في حدوث مشكلات، خاصةً عند اقتراب المواعيد النهائية.

للتعامل مع مثل هذه المواقف، تحتاج المؤسسات إلى أشخاص يمكنهم رصد المشكلات ومعالجتها قبل تفاقمها. وقد أفاد العديد من المدراء أن بمقدورهم أداء أدوارهم بطريقة طبيعية نسبياً، بفضل هذه الوسائل إلى جانب غيرها من وسائل الدعم. ووجد مدراء شركة “ساب” أنهم قادرون على الإشراف على المشاركين في البرنامج عن بُعد، على عكس توقعاتهم الأولية، ما دام المنسقون والمرشدون يقدمون الدعم محلياً.

تغير جذري في إدارة الأفراد

تحث برامج التنوع العصبي كلاً من الشركات ومسؤوليها على تبني أسلوب إداري يؤكد وضع كل شخص في سياق يحقق أقصى استفادة ممكنة من إسهاماته.

وتستخدم شركة “ساب” العبارة المجازية التالية لنشر هذه الفكرة داخل المؤسسة؛ إن الأشخاص كقطع لعبة الأحجية، لكل منهم شكله المختلف. ولكم طلبت الشركات من موظفيها نبذ أوجه الاختلاف فيما بينهم؛ لأنه من السهل أن يتواءم الموظفون مع بعضهم إذا كان كل منهم نسخة مثالية من الآخر، ولكن هذا يستلزم تخلي كل الموظفين عن أوجه الاختلاف فيما بينهم وتركها في منازلهم، وهي الاختلافات التي تحتاجها الشركات من أجل الابتكار. فكما أوضحت أنكا فيتنبرغ: “لم يتمكن مجتمع الشركات من الاستفادة من هذه [الميزة]”.

يُشير كل هذا إلى ضرورة تبني الشركات لفلسفة بديلة، فلسفة تدعو المدراء إلى العمل بجد بغرض تجميع قطع الأحجية المختلفة معاً، والتعامل مع الميزة التنافسية للتنوع العصبي ومع الأشخاص ليس على أنهم موارد البشرية قابلة للاستبدال، بل كأصول فردية ذات طابع فريد. قد يغدو عمل المدراء أكثر صعوبة؛ إلا أن الفائدة العائدة على الشركات ستكون كبيرة: إذ إن القدرة على تحقيق أقصى استفادة من مواهب موظفيها وكذلك الحصول على رؤى وأفكار متنوعة قد تساعدهم في خوض غمار المنافسة بصورة أكثر فاعلية. تقول أنكا فيتنبرغ: “الابتكار قرين اختلافاتنا التي تميز بعضنا عن بعض”.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .