كيف تزيد الخوارزميات التفاوت الاقتصادي سوءاً؟

6 دقائق
الخضوع لإدارة الخوارزميات
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: تشكل بعض الخوارزميات “سقفاً شفرياً” يعيق التقدم المهني، بغضّ النظر عن النوع الاجتماعي أو العرق الإثني، لأنه في المؤسسات القائمة على الذكاء الاصطناعي يندر أن يتفاعل الموظفون المبتدئون والمستقلون مع زملائهم الموظفين الآدميين، بل يخضعون لإدارة الخوارزميات. وهذا يؤدي إلى ظهور قوة عاملة خوارزمية عالمية منخفضة الأجر، وستزداد الفجوة التي نراها بين كبار المسؤولين التنفيذيين والموظفين العابرين الذين يعملون على الهامش الخارجي للشركة وحتى ضمن المؤسسات. تعمل الشركات القائمة على الذكاء الاصطناعي سواء في مجال تجارة التجزئة أو اللوجستيات أو التصنيع بإدارة مجموعة صغيرة من الموظفين الذين يتقاضون أجوراً عالية تدعمهم أنظمة أتمتة متطورة وربما ملايين الموظفين المستقلين ذوي الأجور المنخفضة الخاضعين لإدارة الخوارزميات على الهامش. استقطاب العمل هو مجرد جزء من المشكلة، وما يجب أن نخشاه حقاً هو فخ التفاوت الخوارزمي الناجم عن حلقات تبادل المعلومات هذه.

 

تجذب مخاطر الخوارزميات المتمثلة في التمييز والتحيز انتباهاً وتدقيقاً كبيرين، وهذا ضروري، لكن مجتمعنا الذي يزداد اعتماده على الذكاء الاصطناعي يوماً بعد يوم يوقع أثراً جانبياً أسوأ، وهو التفاوت المنهجي الذي تخلقه الطبيعة المتغيرة للعمل نفسه. نخاف من مستقبل تستولي فيه الروبوتات على وظائفنا، لكن ما الذي سيحدث إذا انتهى الأمر بقسم كبير من القوة العاملة في وظائف تعاني من الخضوع لإدارة الخوارزميات حيث لا مستقبل لها وفرص التقدم فيها ضئيلة؟

تتمثل إحدى الصور الكلاسيكية لنجاح الشخص العصامي في قائد يبدأ مسيرته من مكان متواضع ويشق طريقه صعوداً من غرفة البريد أو آلة تسجيل المدفوعات النقدية أو مساحة العمل. وفي حين أن ذلك أصعب بدرجة كبيرة مما تصوره أفلام هوليوود، لكن الحركة الصاعدة من القاعدة إلى القمة كانت على الأقل ممكنة في المؤسسات التقليدية. بدأ الرئيس التنفيذي لشركة “ماكدونالدز”، تشارلي بيل، عامل تقليب قطع اللحم التي تستخدم في تحضير الشطائر، وبدأت رئيسة مجلس الإدارة في شركة “جنرال موتورز” ورئيستها التنفيذية، ماري بارا، عاملة في خط التجميع، وبدأ الرئيس التنفيذي لشركة “وول مارت”، دوغ ماكميلون، موظفاً في مركز التوزيع.

بالمقارنة، ما عدد السائقين في شركة “أوبر” الذين تعتقد أنهم سيحظون بفرصة لاستلام منصب إداري ناهيك بقيادة عملاقة النقل التشاركي؟ ما عدد أهم المسؤولين التنفيذيين المستقبليين في شركة “أمازون” الذين سيبدؤون مسيراتهم المهنية بتوصيل الطرود أو تجميع السلع على الأرفف؟ قد يكون الملياردير مؤسس شركة “إنستاكارت” ورئيسها التنفيذي قام بتوصيل أول طلب للشركة بنفسه، ولكن كم عامل توصيل آخر سيسير على خطاه؟

إليك المشكلة: تشكل بعض الخوارزميات “سقفاً شفرياً” يعيق التقدم المهني، بغضّ النظر عن النوع الاجتماعي أو العرق الإثني، لأنه في المؤسسات القائمة على الذكاء الاصطناعي يندر أن يتفاعل الموظفون المبتدئون والمستقلون مع زملائهم الموظفين الآدميين، بل يخضعون لإدارة الخوارزميات.

وفي هذا العصر الجديد من العمل الخاضع لإدارة الخوارزميات نرى عادة مساراً تراتبياً لتدفق المعلومات تحدد الشركة فيه المعلومات التي ترغب في مشاركتها معك. وخلافاً لقيادة سيارة الأجرة العادية التي تعتمد على اتصالات السائقين المفتوحة عبر الراديو مع مسؤول الاتصال والتوجيه والسائقين الآخرين، حين تعمل لدى شركة “أوبر” أو “ليفت” يكون محتوى تفاعلاتك هذه ناتجاً عن وظيفة التحسين التي تم تصميمها في الخوارزمية بهدف تعظيم الفاعلية والربح.

الخضوع لإدارة الخوارزميات

يتمثل الخضوع لإدارة الخوارزميات في الخضوع إلى الإشراف والمراقبة المستمرين، إذا كنت واحداً من ملايين عمال توصيل الطعام لدى شركة “ميتوان” أو “إيلي دوت مي” في الصين، فإن الخوارزمية هي التي تحدد المدة التي تحتاج إليها لتوصيل طلب ما وتخصم من أجرتك إذا لم تتمكن من تلبيتها. وبالمثل تعمل الخوارزمية على تتبع موظفي مراكز التوزيع في شركة “أمازون” بدقة، إذ يجب عليهم العمل وفقاً للسرعة المحددة في الشركة التي تسمى “وتيرة أمازون” وتتراوح “بين المشي والهرولة”.

فلنقل مثلاً إنك تعمل في اقتصاد الأعمال المستقلة، لن يكون عليك القلق فقط من الخضوع لإدارة الذكاء الاصطناعي، وإنما من حقيقة أن زملاءك في العمل هم منافسوك في نفس الوقت. مثلاً، أبلغ سكان مدينة شيكاغو الذين يعيشون بالقرب من نقاط توزيع شركة “أمازون” ومتاجر شركة “هوول فودز” عن ظاهرة غريبة تتمثل في تدلي هواتف ذكية من الأشجار، ما السبب في ذلك؟ كان سائقو التوصيل المتعاقدون يستميتون للتغلب على منافسيهم والحصول على مهمات العمل، وكانوا يؤمنون بأن تعليق أجهزتهم بالقرب من محطات التوصيل سيساعدهم في التلاعب بخوارزميات توزيع المهام، إذ يمكن أن يكون الهاتف الذكي المعلق على شجرة وسيلة للحصول على مهمة توصيل بقيمة 15 دولاراً قبل السائقين الآخرين بثوانٍ فقط.

يتغير العمل باستمرار منذ عدة عقود، وشهد سوق العمل نمواً مستقطباً بدرجة متزايدة، إذ تتآكل وظائف المهارات المتوسطة مقارنة بوظائف المستوى الابتدائي والعمل المتدني المهارات والعمالة العالية المستوى التي تتطلب مستويات أعلى من المهارات، وعلى الأرجح تسببت جائحة “كوفيد-19 “بتسريع العملية. منذ عام 1990 كانت كل حالة ركود مرت بها الولايات المتحدة متبوعة بفترة تعافٍ من دون وظائف، أما هذه المرة، ومع تسبب الذكاء الاصطناعي والخوارزميات والأتمتة بإعادة تشكيل القوة العاملة، فقد ينتهي بنا المطاف إلى ما هو أسوأ: عملية التعافي ذات شكل حرف (K) (K-shaped recovery) حيث تشهد فرص نجاح من في القمة ارتفاعاً كبيراً في حين تنخفض فرص نجاح الآخرين كافة بدرجة كبيرة.

الفجوة الرقمية الجديدة

يزداد حجم الفجوة الرقمية الجديدة بين الموظفين الذين يتمتعون بإمكانية الوصول إلى التعليم العالي وتوجيه القيادة وخبرة العمل من جهة والموظفين الآخرين من جهة أخرى، في كتابي الجديد “القائد الخوارزمي” (The Algorithmic Leader) أستكشف تصوراً مرعباً واحداً يتمثل في انقسام طبقي بين الموظفين الذين يعملون تحت إمرة الخوارزميات ويشكلون فئة مهنية تتمتع بامتيازات خاصة وتملك المهارات والقدرات اللازمة لتصميم الأنظمة الخوارزمية وتدريبها، وأقلية أرستقراطية فاحشة الثراء تملك المنصات الخوارزمية التي تدير العالم.

بدأت قوة عاملة خوارزمية عالمية منخفضة الأجر بالظهور فعلاً؛ في أميركا اللاتينية نجد شركة “رابي” (Rappi) التي تعتبر واحدة من الشركات الناشئة الأسرع نمواً، وهي مزيج من شركتي “أوبر إيتس” (Uber Eats) و”تاسك رابيت” (TaskRabbit). يدفع العملاء في مدن مثل بوغوتا وميكسيكو سيتي دولاراً واحداً تقريباً على كل طلب أو 7 دولارات كاشتراك شهري، وفي المقابل يمكنهم التعامل مع شبكة واسعة عليها طلب كبير من المراسلين الذين يعملون على توصيل الطعام والبقالة وأي شيء آخر تريده. تملك شركة “أمازون” شبكة غير رسمية من موظفي التوصيل تسمى “أمازون فليكس” (Amazon Flex)، وهم على استعداد لتوصيل الطرود إلى بابك، وسيقومون قريباً بتسليمها لك في الشارع أو وضعها في صندوق سيارتك أو حتى الدخول إلى منزلك ووضع البقالة في ثلاجتك.

ألقى جون مينارد كينز محاضرة في عام 1930 بعنوان “الاحتمالات الاقتصادية التي سيواجهها أحفادنا” تنبأ فيها أنه بحلول عام 2030 ستكون مشكلة الإنتاج قد حُلّت وسيتوفر كل شيء للجميع، لكن المهم هو أن الآلات ستسبب البطالة التكنولوجية. يتمثل التصور الذي لم يتوقعه كينز بدقة في واقعنا الذي يشهد عمالة تكنولوجية هائلة مترافقة بدرجة كبيرة من التفاوت.

فالقوة العاملة تتغير، ومكان العمل كذلك، وستزداد الفجوة التي نراها بين كبار المسؤولين التنفيذيين والموظفين العابرين الذين يعملون على الهامش الخارجي للشركة وحتى ضمن المؤسسات. تعمل الشركات القائمة على الذكاء الاصطناعي سواء في مجال تجارة التجزئة أو اللوجستيات أو التصنيع بإدارة مجموعة صغيرة من الموظفين الذين يتقاضون أجوراً عالية تدعمهم أنظمة أتمتة متطورة وربما ملايين الموظفين المستقلين ذوي الأجور المنخفضة الخاضعين لإدارة الخوارزميات على الهامش.

التفاوت الخوارزمي

استقطاب العمل هو مجرد جزء من المشكلة، وما يجب أن نخشاه حقاً هو فخ التفاوت الخوارزمي الناجم عن حلقات تبادل المعلومات. عندما تصبح موظفاً ضمن اقتصاد الأعمال المستقلة تعتمد في عملك على المهام التي يقررها هاتفك الذكي ستصبح فرص الترقية أو التطوير أقلّ وستؤدي الخوارزميات الأخرى إلى زيادة التعقيد في وضعك. فكر في الأمر كما لو أنه تكيّة رقمية؛ تبقى مهام عمل الطبقة الدنيا الجديدة من موظفي الذكاء الاصطناعي وإيراداتها رهينة تقلبات السوق، وبالتالي فهذه الطبقة تتعرض لمعاقبة الأنظمة المؤتمتة التي تحدد إمكانية الوصول إلى الإعانة الاجتماعية أو القروض أو التأمين أو الرعاية الصحية أو التي تقرر عقوبات الاحتجاز.

ولكن السعي للإصلاحات السريعة لمشكلة لم تتوضح تماماً بعد خطِر، لا سيما إذا كانت هذه الإصلاحات تتمثل في إدخال قوانين حماية العمال المستخدمة في القرن العشرين إلى نماذج عمل القرن الواحد والعشرين. وبالفعل، تركز الحكومات والجهات التنظيمية التي تدعمها المنصات الشعبية على مهاجمة الشركات الرقمية العالمية العملاقة سعياً لمنعها من التملص من التزاماتها الضريبية ولتنظيم شروط عمل قوتها العاملة المستقلة بهدف تطبيق القيود على مجموعة بياناتها وحتى فرض ضرائب على روبوتاتها. أثبتت بعض هذه الأفكار جدارتها، لكن بعضها الآخر لا يزال سابقاً لأوانه، أو الأسوأ هو أنه مجرد مسرحية سياسية.

لن يتمثل الحلّ الطويل الأمد لمشكلة التفاوت الخوارزمي في مجرد فرض الضرائب ووضع القوانين، بل في قدرتنا على تقديم نظام تعليم ملائم للقرن الواحد والعشرين. لن يكون من السهل تجديد نظام التعليم، وبدلاً من البحث عن طرق لاستخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم، يكون السؤال الواجب طرحه: كيف نعلّم الموظفين استخدام ذكاء الآلة في حياتهم المهنية؟ وكيف نعلمهم الاستعداد للخوض في عملية تعلم وإعادة تأهيل مستمرة مدى الحياة؟

لقادة الشركات دور أساسي في ذلك؛ يجب عليهم تشكيل قنوات التواصل والتقييم والتقدم للموظفين المستقلين الذين يعملون في هوامش مؤسساتهم، إلى جانب أن عليهم التعامل بجدية مع مسائل إعادة التأهيل والتفاعل مع المنظومة. مثلاً، تعمل شركة “أيه تي آند تي” على إعادة تأهيل نصف قوتها العاملة، في حين تعمل شركات “سيسكو” و”آي بي إم” و”كاتربيلر” و”ماكنزي” و”جيه بي مورغان” على تقديم برامج التدريب الداخلي لطلاب المرحلة الثانوية وتتعاون مع المدارس المحلية لترقية مناهجها. هذه كلها مبادرات جيدة ولكننا بحاجة إلى المزيد، ليس لأجل التماسك الاجتماعي فحسب وإنما لأجل ضمان التنوع الاجتماعي في قوة الغد العاملة ومرونتها.

يجب أن نضع خطة أفضل للمستقبل، فمن دونها سيصبح فخ التفاوت الخوارزمي حكاية تروى، ليس عن الإحصائيات ونسب الثروات فقط بل وعن إشارات البؤس المتمثلة في الهواتف الذكية المتدلية من الأشجار ومدن خيام المشردين والمراسلين الآدميين الذين يبحثون في السماء عن طائرات التوصيل ذاتية القيادة التي تنذر بنهايتهم الوشيكة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .