هل التقشف في المملكة المتحدة أدى إلى أزمة البريكست؟

8 دقائق
أزمة البريكست
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لم يتبقَّ أمام رئيس الوزراء الجديد للمملكة المتحدة بوريس جونسون سوى أقل من شهر واحد للتوصل إلى عملية تضبط أزمة البريكست وخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. شعار المرحلة الرسمي لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي هو “التنفيذ أو الموت”، بمعنى الخروج مهما كانت الظروف في يناير/كانون الثاني. ولكن الخروج “دون اتفاق” الآن يبدو أنه لا يشبه ما عُرض على جمهور الناخبين عام 2016. إن عدم تنفيذ اتفاقية البريكست يعني حلول اللعنة على ما وعدت به حملة “صوّت للمغادرة” (Vote Leave) الداعية إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي بصورة تدريجية وسلسة. في الواقع، إنْ حدث هذا فعلاً فهو يعني انهيار معظم الوعود المرتبطة بعملية الخروج من الاتحاد الأوروبي مثل استمرار مشاركة المملكة المتحدة في السوق الموحدة.

أزمة البريكست

مع أنه لم يُتوصل حتى الآن إلى حل سياسي حول أزمة البريكست، فإن فهمنا الأكاديمي لسبب التصويت لصالح البريكست تطور بصورة كبيرة على مدى الأعوام الثلاثة السابقة. وجدت الدراسات أن المناطق المؤيدة للخروج تتمتع ببنية اقتصادية ضعيفة، يصاحبها انخفاض في مستويات الدخل، وتدني الرضا عن الحياة، وقلة في الوظائف عالية المستوى، وتقدم عمر السكان، وانخفاض في مستويات التحصيل العلمي. يظهر من خلال دراستي البحثية المنشورة حديثاً في “المجلة الاقتصادية الأميركية” (American Economic Review)، أن هذه الأجزاء المهمَلة كانت تعتمد اعتماداً خاصاً على نظام الإعانات الاجتماعية، ومن ثَم هم الأكثر عرضة لتخفيض هذه الإعانات.

كما تُظهر تحليلاتي أن التخفيضات التي حدثت في نظام الإعانات الاجتماعية نتيجة التقشف منذ عام 2010 أدت دوراً مهماً في تعزيز دعم حزب الاستقلال في المملكة المتحدة وحملة “صوت للمغادرة”. جمعتُ بيانات من جميع العمليات الانتخابية التي نُظمت في المملكة المتحدة منذ عام 2000، وأنشأت مجموعة بيانات تفصيلية على مستوى الفرد تضم 40 ألف أسرة تقريباً منذ عام 2009. ودرستُ من خلال هذه البيانات مدى ارتباط تعرض الأفراد أو المناطق لخفض الإعانات الاجتماعية منذ عام 2010 بزيادة الدعم السياسي لحزب الاستقلال في الفترة التي سبقت استفتاء أزمة البريكست عام 2016. تشير التحليلات إلى قوة هذا الارتباط، لدرجة أن نتائج استفتاء الاتحاد الأوروبي عام 2016 كانت لتسجل نصراً واضحاً لخيار البقاء في الاتحاد (أو أن هذا الاستفتاء لم يكن ليحدث أبداً) لو لم تُتخذ تدابير تقشفية مثل الاستقطاعات الكبيرة في الإنفاق العام.

وإلى جانب تحويل الدعم إلى حزب الاستقلال وحملة الخروج من الاتحاد الأوروبي، أظهر الأفراد الذين تعرضوا لخفض نوع معين من المزايا ازدياداً ملحوظاً في السخط السياسي الشامل. أصبحوا أكثر استياءً وسخطاً على النظام السياسي للمملكة المتحدة، كما زاد إيمانهم بأن “الموظفين الحكوميين غير مكترثين بالأوضاع”، وأنه “لا يؤخذ برأيهم في السياسات الحكومية”، وأن صوتهم غير مهم.

تداعيات التقشف

كانت الاستقطاعات الهائلة في المزايا، التي بدأت عام 2010، قد أصابت بالدرجة الأولى، اقتصادات المناطق التي كانت تعاني بشكل فعلي، في حين كانت تحاول التعافي ببطء من الأزمة الاقتصادية العالمية. تدهور أحوال ملايين الأسر العاملة. تشير الأرقام الإجمالية إلى تقليص الإنفاق الحكومي العام على الإعانات الاجتماعية والحماية، مثل البطالة والسكن والإعفاءات الضريبية والمزايا المرتبطة بالإعاقة بنسبة 16% بالنصيب الفعلي للفرد (انظر إلى الرسم البياني أدناه)؛ ووصولها إلى مستويات لم نشاهدها منذ بداية القرن الحالي. ووفقاً لتقديرات مكتب مسؤولية الميزانية، فقد خُفّض مبلغ إجمالي قدره 45.5 مليار جنيه استرليني من ميزانية الإعانات الاجتماعية ما بين عامي 2010 و2021. وبحلول عام 2020، سينخفض نصيب الفرد الفعلي اليومي من الإنفاق الحكومي بنسبة 15% مقارنة بنسبته في عام 2010.

تداعيات التقشف

ومع أن نظام الرعاية الصحية لم يتأثر بشكل مباشر بهذه التخفيضات، فإن تقدم عمر السكان أدى إلى زيادة كبيرة في الحاجة إلى الرعاية الصحية، ما أدى إلى تدني الجودة وفرص الحصول على الخدمات للكثيرين، وساهم في تفاقم الأزمة المستمرة حالياً في نظام الرعاية الصحية الذي يوشك على الانهيار أثناء ذروة الطلبات الموسمية. كما انخفض الإنفاق العام على التعليم أيضاً مع تحويل معظم أعباء تكاليف التعليم الجامعي من المسؤولية الحكومية إلى الخاصة، وهو ما أدى إلى زيادة الرسوم الدراسية بما يقارب الثلاثة أضعاف في عديد من الجامعات. وفي الوقت ذاته، معظم من استفاد من تخفيضات الضرائب التي قلّصت الإيرادات العامة هم الأثرياء أو أصحاب الدخل المرتفع.

وعلى مستوى المقاطعات، انخفض معدل الإنفاق الشخصي بنسبة 23% من النصيب الفعلي بين عامي 2010 و2015. كانت المناطق الأشد فقراً من المملكة المتحدة هي الأكثر تضرراً، ذلك أنها كانت الأكثر اعتماداً على الإعانات الاجتماعية، ولهذا اضطر بعض المناطق الإدارية المحلية إلى خفض الإنفاق بنسبة تصل إلى 46%. طُبق عديد من التدابير التقشفية المؤثرة في الأفراد (مثل خفض إعانات السكن والإعفاءات الضريبية) وفقاً لقانون إصلاح الإعانات الاجتماعية لعام 2012. قُدِّرت تكلفة هذه التدابير مجتمعة على الفرد البريطاني العامل في المتوسط بحوالي 449 جنيهاً إسترلينياً سنوياً، بالإضافة إلى المدخرات المالية المقدرة بـ 18.8 مليار جنيه إسترليني سنوياً.

بالطبع كان التأثير العام للتخفيضات متفاوتاً جداً عبر مناطق المملكة المتحدة؛ إذ تراوح بين 914 جنيهاً إسترلينياً تقريباً للفرد البالغ العامل سنوياً في مدينة بلاكبول إلى ما يزيد بقليل عن 177 جنيهاً إسترلينياً للفرد البالغ العامل سنوياً في لندن. هذا بالإضافة إلى أن فقدان الدخل المكتسب من المزايا الذي تسببه هذه التخفيضات له عواقب كثيرة على الاقتصادات المحلية. إذ بحسب تقديري، لكل جنيه إسترليني مفقود من دخل المزايا، انخفض دخل الفرد في المناطق المحلية بما يقارب 2.4 جنيه إسترليني بسبب الأثر المضاعف. تشير الحسابات التقديرية إلى أن عائدات ضريبة القيمة المضافة من النشاط الاقتصادي الضائع بسبب إصلاحات الإعانات الاجتماعية كانت من الممكن أن تغطي مساهمة المملكة المتحدة السنوية في ميزانية الاتحاد الأوروبي، ما يجعل واحدة من أهم القضايا الشائكة في حملة الخروج غير منطقية.

من التقشف إلى أزمة البريكست

تُظهر تحليلاتي أيضاً أن الناخبين الأكثر تضرراً من التخفيضات هم الأكثر إقبالاً على حملة الخروج، وهذا لا يدعو للدهشة، إذ إن القائمين على الحملات وعدوا بالحصول على مكاسب مالية، ناتجة عن الخروج من الاتحاد الأوروبي، من شأنها مساندة الخدمات العامة المتدهورة. في الأعوام السابقة لاستفتاء الاتحاد الأوروبي في عام 2016، نال حزب الاستقلال في المملكة المتحدة، وهو الحزب الشعبوي الأساسي المناصر للبريكست، مكاسب انتخابية ضخمة، مدفوعة إلى حد كبير بالناخبين في تلك المناطق الأكثر تأثراً بتخفيضات الإعانات الاجتماعية. كما وجدتُ أيضاً أن أصوات حزب الاستقلال ازدادت بين 3.5 إلى 11.9 نقطة مئوية بسبب تخفيضات الإعانات الاجتماعية، ما يشير إلى أنه كان من الممكن أن ينتج عن استفتاء الاتحاد الأوروبي نصر إلى جانب البقاء في الاتحاد لولا تدابير التقشف تلك. فاز خيار الخروج بفارق 3.8 نقطة مئوية.

دعم حزب الاستقلال في المملكة المتحدة

ما سبب نجاح حزب الاستقلال وحملة الخروج من الاتحاد الأوروبي؟ تشير الدلائل إلى أن دعم حزب الاستقلال وخيار الخروج يمثل بالنسبة إلى كثير من الناخبين طريقة للاحتجاج ضد التسوية السياسية المحلية للمملكة المتحدة. ذكر 43% فقط من ناخبي حزب الاستقلال عام 2014 أن دعمهم للحزب كان بسبب هدفه المتمثل في الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهذا مقابل مجموعة نسبتها 26% من الناخبين الذين ذكروا أن سبب دعمهم للحزب هو “استياؤهم من الأحزاب الثلاثة الأخرى، أو رغبتهم في إيصال رسالة، أو بمثابة تصويت احتجاج”. من غير المرجح أن يكون الناخبون الذين صوتوا للخروج في استفتاء الاتحاد الأوروبي، ومن ثَم ساهموا في أن تميل كفة الميزان إلى جانب الخروج، من المتشككين المتعصبين حول الاتحاد الأوروبي، بل من الناخبين الساخطين خائبي الآمال. أما قلة أصوات الإنجليز المطالبة بالخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016 فتُعد تجسيداً للتداعيات السياسية الناتجة عن التقشف.

لا يمكن اكتشاف تأثير التقشف عن طريق بيانات نتائج التصويت الإجمالية فحسب، بل أيضاً عن طريق النظر إلى تفضيلات الناس السياسية التي اختلفت بمجرد تعرضهم للتخفيضات في المزايا. خذ على سبيل المثال أحد الإجراءات الإصلاحية للإعانات الاجتماعية المُطبقة بموجب قانون 2012 لإصلاح الإعانات الاجتماعية؛ الذي يسمى أيضاً بـ”ضريبة غرفة النوم”. كان الهدف من التخفيضات في هذه المزايا هو خفض مزايا السكن التي تُدفع إلى الأسر منخفضة الدخل، التي تسكن في الإسكان الاجتماعي المؤجر. حدَّد هذا الإجراء عدداً أقصى لغرف النوم المسموحة في السكن، ما أدى إلى خسارة ما يقارب 600 ألف أسرة جزءاً كبيراً من مزايا السكن الخاصة بها لو حصلوا على “غرفة نوم إضافية”. وقد أثر هذا غالباً في الأسر ذات الأفراد العاملين الأكبر سناً والأقل دخلاً ممن انتقل أبناؤهم للعيش خارج المنزل.

درستُ أيضاً الأسر المعرضة لهذه التخفيضات والأسر غير المعرضة لها، وقارنت تفضيلاتها السياسية، فضلاً عن مجموعة نتائج أخرى في الأعوام التالية. من غير المفاجئ أن تتأخر الأسر التي وجبت عليها ضريبة غرفة النوم في دفع الإيجار بعد تفعيل التخفيض، مع اضطرار بعض الأسر للانتقال إلى سكن أصغر. تُظهر نتائجي أن دعم الأفراد الذين يسكنون في مثل هذه المساكن تحول نحو حزب الاستقلال وحملة الخروج من الاتحاد الأوروبي.

التقشف في خضمّ المظالم المتزايدة

طالت مدة الأزمة الاقتصادية والسياسية التي ساعدت إجراءات التقشف في ظهورها منذ فترة الإعداد لها. ومن خلال تقليص دولة الإعانات الاجتماعية، ساهم التقشف في تفعيل مجموعة واسعة من المظالم الاقتصادية الموجودة التي تطورت على مدى فترة طويلة من الزمن نتيجة للعديد من العوامل المختلفة مثل خسائر الوظائف أو الأجور نتيجة تزايد التبادل التجاري والهجرة والأتمتة.

ومن المتوقع أن يستمر عديد من هذه الاتجاهات الاقتصادية. كما تؤدي دولة الإعانات الاجتماعية دوراً مهماً في ضمان وجود إجماع اجتماعي على احتضان العولمة والتبادل الدولي والتطور التقني. يجب على السياسة العامة أن تقدم حلولاً للفئات الخاسرة أو المهمَلة. وهنا يأتي دور الإنفاق على الإعانات الاجتماعية، من الاستثمار المتواصل في التعليم والتدريب وغيره من أشكال مزايا الإعانات الاجتماعية؛ إلى مساعدة الأفراد على الصمود في فترة الانتقال بين الوظائف.

وقد أدى نظام الإعانات الاجتماعية في المملكة المتحدة هذا الدور فعلاً، ولو جزئياً، حتى عام 2010. يُظهر بحثي أن نظام الإعانات الاجتماعية في المملكة المتحدة منذ عام 2001 حتى 2010 كان سريع الاستجابة، مع توسيع نطاق المزايا والمدفوعات التحويلية لتشمل من تسوء حالتهم الاقتصادية نسبياً. كانت دولة الإعانات الاجتماعية تتعامل مع بعض المظالم وتزايد انعدام المساواة التي أحدثتها التغييرات الاقتصادية السريعة. ولكن مع بداية التقشف عام 2010، توقف فجأة هذا الاتجاه نحو توسيع مدفوعات المزايا إلى أولئك الذين تعرضوا للخسارة. يمكن ربط ازدياد دعم حزب الاستقلال والبريكست بعملية إعادة تشكيل العقد الاجتماعي.

ويتفق جميع الاقتصاديين على أن حجم اقتصاد المملكة المتحدة في عام 2019 أصغر بكثير مما كان يتوقع أن يكون عليه الآن لولا تصويت عام 2016، حتى مع عدم تطبيق اتفاق البريكست حتى الآن. ومن المتوقع أيضاً أن يُحدث الخروج دون اتفاق صدمة اقتصادية سيكون لها آثار سلبية في الملايين من العاملين الفقراء ممن اُقتيد كثير منهم لدعم البريكست عام 2016 بناءً على وعود تتعارض تماماً مع الواقع السائد لعملية الخروج دون اتفاق. بل الأسوأ من ذلك أن تآكل نظام الإعانات الاجتماعية، الذي ساهم في فوز خيار الخروج عام 2016، يترك العديد من العاملين الفقراء في حالة أسوأ من أن يكونوا قادرين معها على تجاوز أي هبوط اقتصادي محتمل. لا يسع الفرد إلا أن يأمل في تحقق وعود عام 2016 في فترة ما أقرب بكثير من 50 عاماً أو نحو ذلك، وهي التي يعترف أبرز المناصرين للخروج بأنها الفترة اللازمة لظهور الفوائد المادية للخروج من الاتحاد الأوروبي. الأمر الوحيد الواضح هو أن البريكست يعد ضماناً للمزيد من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

اقرأ أيضاً:

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .