في ظل تفاقم ظاهرة الاحتراق الوظيفي وتراجع معدلات اندماج الموظفين، واستمرار موجة استقالة العاملين من وظائفهم على الرغم من حالة عدم اليقين الاقتصادي التي تخيم على العالم في الآونة الحالية، يجب على المؤسسات زيادة تركيزها على استبقاء الموظفين. وفي حين أن التعويضات والمزايا تشكّل مكوِّناً مهماً في عملية استبقاء الموظفين، فإن مصدر الولاء الدائم للمؤسسة يستند إلى شيء أعمق في العادة.

ولك أن تنظر مثلاً إلى شخص كنت تعتبره مثلاً أعلى وتتخذه موجهاً لك في حياتك عندما كنت شاباً أو في بداية مسيرتك المهنية. لقد كان يحبك لشخصك ويقدّم لك أي مساعدة كنت تحتاج إليها بكل تجرُّد. إذا أرسل إليك هذا الشخص رسالة عاجلة يطلب فيها النجدة، فهل ستترك أي شيء من يديك وتهب لنجدته؟ بالطبع ستفعل. هذا هو الولاء! والولاء ليس شيئاً يمكنك شراؤه بالمال أو بغيره من المغريات؛ بل علاقة عميقة الجذور تشعر فيها بالتقدير والدعم، وبأن الطرف الآخر يعضدّك. يشكّل هذا النوع من العلاقات أساس عملية التواصل البشري، ولا يقدَّر بثمن.

وتدعم الأدلة الحديثة هذا الاتجاه. وعلى عكس ما يعتقده الكثير من أصحاب العمل حالياً، فإن الموجة الأخيرة من استنزاف الموظفين لا ترتبط بالوضع الاقتصادي في المقام الأول، ولكنها أكثر ارتباطاً بالعلاقات (أو عدم وجودها من الأساس). وتدعم البيانات فكرة أن قرارات الموظفين بالبقاء في الوظيفة تستند إلى حدٍّ كبير إلى الإحساس بالانتماء والشعور بالتقدير من قِبَل قادتهم والاهتمام والثقة في زملائهم. وعلى العكس من ذلك، فإن احتمالات إقدام الموظفين على الاستقالة من عملهم تزداد عندما تكون العلاقة التي تربطهم بالعمل مجرد معاملات جافة. فكيف يعزز القادة، إذاً، علاقات أكثر عمقاً في المؤسسات ويغرسون فيهم روح الولاء؟ تتلخّص الإجابة في كلمة واحدة: التعاطف.

علم التعاطف وخدمة الآخرين

يعرّف الباحثون التعاطف بأنه تلك الاستجابة العاطفية لمعاناة الآخرين التي تنطوي على رغبة حقيقية في تقديم يد العون. ويختلف التعاطف كلياً وجزئياً عن “المشاركة الوجدانية”، وإن بدا المعنيان متشابهين. ويُنظر إلى المشاركة الوجدانية باعتبارها المكوِّن المسؤول عن الإحساس والشعور وكشف المشاعر المتوارية وفهمها على حقيقتها، لكن التعاطف يتجاوز المعنى المحدود للمشاركة الوجدانية من خلال اتخاذ إجراءات محدَّدة على سبيل الاستجابة للحدث. ويمكن تلخيص الأمر في المعادلة التالية: مشاركة وجدانية + إجراء = تعاطف. فعندما يمر أحد الزملاء بوقت عصيب، فإن إبداء التعاطف معه في محنته سيترك في نفسه أثراً إيجابياً لا يمحوه الزمن، كما أنه سيعمّق العلاقة المشتركة بينكما ويوطدها.

ونحرص في أبحاثنا على رصد الأدلة التجريبية المرتبطة بالموضوعات التي يستخفّ بها البعض على أساس أنها تنتمي إلى عالم “المهارات الشخصية”. وندرس المفاهيم الأخلاقية/المعنوية أو الشعورية/الانفعالية، مثل التعاطف، من زاوية علمية. وقد أثبتت نتائجنا في قطاع الرعاية الصحية، على سبيل المثال، أن التعاطف يشكّل عنصراً مهماً، ليس فقط من النواحي المعنوية، ولكن أيضاً من النواحي العملية القابلة للقياس. وكانت إحدى النتائج مذهلة للغاية؛ إذ يرتبط إظهار المزيد من التعاطف بانخفاض الشعور بالاحتراق الوظيفي بين العاملين في قطاع الرعاية الصحية، أي أن التعاطف قد تكون له آثار مفيدة ليس فقط لمتلقي التعاطف، ولكن لمانحيه أيضاً.

وقد حاولت أبحاثنا الأخيرة تطبيق هذه النتائج على الجميع في كل مكان وفي قطاعات أخرى بخلاف قطاع الرعاية الصحية. فقد درسنا في كتابنا تأثير اللطف على صحة الإنسان. وتدعم الأبحاث المكثَّفة نتيجة مفادها أن تركيز الإنسان على العطاء، يرتبط بطول العمر، وبمقدوره الوقاية من آثار الأحداث المثيرة للقلق التي قد تُزيد من خطر الوفاة. وقد يسهم اللطف على وجه التحديد في تقليل مخاطر الإصابة بأمراض القلب والشرايين، بما في ذلك الوقاية من الإصابة بارتفاع ضغط الدم. وقد يساعدنا اللطف والتعاطف أيضاً على الحفاظ على طاقتنا الحيوية وقدراتنا المعرفية مع تقدمنا في السن، كما ثبت أيضاً أن التركيز على السلوكيات غير الأنانية يسهم في تخفيف حدة الآلام. وقد أثبت الكثير من الدراسات أن العطاء وعدم الأنانية في التعامل مع الآخرين يرتبطان بالسعادة والرفاهة والقدرة على التحمل ومقاومة الاحتراق الوظيفي وتقليل أعراض الاكتئاب وتحسين العلاقات.

لكن ماذا عن النجاح المهني؟ في واقع الأمر، ليست هناك أدلة تدعم نظرية المدرسة القديمة القائلة بأن “الاتصاف بالأنانية، أي حرص الإنسان على مصلحته وعدم الاكتراث بالآخرين” ستجعله يعتلي أعلى المناصب. ففي دراسة طولية أُجريت في كلية هاس للأعمال بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، استخدم الباحثون مقاييس بحثية معتمَدَة لتقييم السمات الشخصية للأفراد الذين يدخلون سوق العمل. وبعد 14 عاماً، وتحييد العوامل الديموغرافية والمؤسسية، ثبت بالدليل القاطع أن أولئك الذين اتصفوا بالأنانية والعدوانية والتلاعب كانت فرصهم أقل من غيرهم لارتقاء المناصب العليا. وعلى العكس من ذلك، فقد كانت فرص الأشخاص الذين اتصفوا بالسخاء والقبول أكبر من غيرهم للوصول إلى أعلى المناصب. وقد وجدت دراسة أجرتها جامعة ساوث كارولينا، وشهدت استقصاء آراء عينات ممثِّلة لعامة السكان في الولايات المتحدة والدول الأوروبية عبر مجموعة واسعة من مستويات الدخل، أن الأشخاص الذين يمتلكون “دافعاً اجتماعياً إيجابياً”، أي أولئك الأكثر لطفاً وسخاءً، يحصلون في أغلب الأحيان على دخل أعلى من الأنانيين. وقد أجرت دراسة كندية تقييماً للسمات الشخصية لدى ما يقرب من 3,000 طفل منذ مرحلة رياض الأطفال، وظلت تتابعهم لمدة 30 عاماً تقريباً. ووجد القائمون على الدراسة أن أولئك الذين أظهروا أقصى قدر من اللطف تجاه الآخرين في رياض الأطفال، بغض النظر عن معدل الذكاء والخلفية الأسرية، كانوا يحققون أرباحاً سنوية أعلى بكثير، مقارنةً بأولئك الذين كانوا يتصفون بالعدوانية أو الأنانية.

والآن، فقد تقول لنفسك: إذا كان اللطف وسيلة رائعة لتحقيق التقدم على المستوى المهني، فسوف أحضر القهوة لكل زملائي في العمل وأرسل لهم بطاقات تهنئة في أعياد ميلادهم، وعندها سيلمع نجمي وأنول مُرادي! ليس بهذه الطريقة. فقد أثبتت الأبحاث أيضاً أن الدوافع في غاية الأهمية. وإذا أظهرت اللطف أو التعاطف مع الآخرين لأسباب استراتيجية أو أنانية، فقد يعود عليك ذلك بالسلب أيضاً. وتشير الأبحاث إلى أن المرء يجب أن يتصف بالإيثار الحقيقي النابع من القلب، دون الإقدام على مساعدة الآخرين بدافع استراتيجي أو اصطناع الرغبة في المساعدة، وإلا فإن محاولاته ستبوء بالفشل الذريع. وبدلاً من التفكير في “العطاء وانتظار المقابل”، فإن البيانات تدعم عقلية “العطاء دون انتظار أي مقابل”.

مراعاة عنصر التعاطف في قيادة الآخرين

إذا كنت ستجد في خدمة الآخرين “الدواء الشافي” لصحتك ورفاهتك ومسيرتك المهنية، فهل يمكن أن يعود التعاطف بالنفع على مؤسستك أيضاً؟ بكل تأكيد، فقد تبدو القيادة التي تتصف بالتعاطف كأنها الشيء الصحيح الذي يجب فعله، ولكن هل هي أيضاً الشيء الذكي الذي يجب فعله؟ نعم هذا صحيح، وفق ما توصّلت إليه الأبحاث.

ويمثّل التعاطف عنصراً حيوياً في القيادة الفعَّالة؛ لأن أدمغة العاملين تستجيب بشكل أكثر إيجابية للقادة الذين يظهرون التعاطف، وهو ما اتضح من خلال أبحاث التصوير العصبي. وقد لوحظ أن إرساء ثقافة يسودها التعاطف يرتبط بانخفاض معدلات الشعور بالإرهاق العاطفي لدى الموظفين (وهو أحد عناصر الاحتراق الوظيفي) بالإضافة إلى انخفاض معدلات تغيُّب الموظفين عن العمل.

ويؤكد المؤلف سيمون سينك أن قادة كثيرين لا يركزون على إظهار “سُلطاتهم الإدارية” ويركزون بدلاً من ذلك على إبداء مظاهر الرعاية تجاه مرؤوسيهم، ويمكن اعتبار هذا السلوك علامة أكيدة على اتصاف هؤلاء القادة بالتعاطف. وقد أثبت الكثير من الدراسات أنه عندما يركّز القادة بشكل أساسي على رفاهة موظفيهم، فإن هذا يعد مؤشراً قوياً على زيادة الرضا الوظيفي للموظف والدعم المؤسسي المتصور والولاء والثقة في المؤسسة وارتفاع معدلات استبقاء الموظفين. كما تم ربطه بتحسين مستوى الأداء الوظيفي للموظف (من خلال تعزيز حافز الموظفين)، وتحسين مستوى أداء الفريق.

طرق مثبتة بالأدلة يمكن للمدراء استخدامها لتحسين مهارات التعاطف لديهم

لقد تحدثنا حتى الآن عن “أسباب” التحلي بالتعاطف، ولكن ماذا عن “كيفية” التحلي به؟ سنقدّم هنا “وصفة” مكونة من 7 عناصر تستند إلى الأدلة على كيفية بدء القادة والمدراء في تطوير مهارات التعاطف في العمل (وفي أيٍّ من نواحي الحياة الأخرى):

ابدأ بالأشياء البسيطة

تدعم الأبحاث الفكرة القائلة بأن التحلي بالتعاطف لا يستلزم تخصيص قدر كبير من الوقت، لذا يجب ألا تتخذ “كثرة المشاغل” عذراً لعدم التحلي بالتعاطف. وقد توصّلت دراسة أجرتها جامعة جون هوبكنز في واقع الأمر إلى أن تخصيص 40 ثانية فقط لإبداء التعاطف بمقدوره أن يقلل من حدة قلق الطرف الآخر بطريقة قابلة للقياس. علاوة على ذلك، فقد توصّلت دراسة أجرتها جامعة بنسلفانيا إلى أن تخصيص بعض الوقت لخدمة الآخرين يزيد من إحساس المرء الذاتي بأنه في “بحبوحة” من الوقت، أي شعورنا بأن لدينا متسعاً من الوقت وأننا لسنا في عجلة من أمرنا.

كُن شاكراً

ربما سمعت أن “عقلية الامتنان” مفيدة لك، لكن لماذا؟ أثبتت الأبحاث التحليلية أن الامتنان يجعلنا أكثر تركيزاً على الآخرين ويحفزنا على خدمتهم. وقد وجدت دراسة أجرتها جامعة تورنتو أن الحياة اليومية (كمكان العمل، مثلاً) تتيح لنا 9 فرص في المتوسط لإبداء التعاطف كل يوم. وحينما نكون شاكرين، فإن هذا يُبقي أعيننا مفتوحة على هذه الفرص.

انتقِ أسئلتك بعناية

نحن بحاجة إلى طرح الأسئلة الصحيحة وتجنب طرح الأسئلة الخاطئة. وعندما يعاني أحد الزملاء صعوبات على المستوى الشخصي، اسألهكيف يمكنك دعمه. وبدلاً من طرح أسئلة يمكن الإجابة عنها بنعم أو لا، مثل: “هل تحتاج إلى مساعدة؟” أو “هل هناك أي شيء يمكنني فعله من أجلك؟” (التي تبدو في أغلب الأحيان كما لو كانت دعوة لقول “لا”)، حاول أن تسأل: “ما الذي يمكنني أن أفعله لأساعدك اليوم في محنتك؟” أو “ما الذي يمكنني فعله لتحسين الموقف قدر المستطاع؟” أو “ما الذي يمكنني فعله لأساعدك في بعض مهماتك اليوم؟”. وستندهش من عدد المرات التي يمنحك فيها طرح الأسئلة الصحيحة بالطريقة الصحيحة شيئاً قابلاً للتنفيذ. وقد أخبرنا أحد الأشخاص الذين تحدثنا معهم عن الرئيس التنفيذي لإحدى كبرى شركات التكنولوجيا التي يعمل بها في وادي السيليكون. كان هذا الرئيس التنفيذي يتعمّد اتباع ممارسة منتقاة بعناية: كلما اكتشف أن موظفاً يواجه وقتاً عصيباً، مثل فقدان أحد أفراد الأسرة أو تشخيص إصابته بمرض خطير، كان يترك كل شيء من يديه ويتصل بالموظف على الفور ليسأله: “كيف يمكنني دعمك ومساندتك؟”. أعود وأكرر، لا تسل الآخر عمّا “إذا” كان يريد المساعدة، بل سله عن “كيفية” تقديم المساعدة.

ابحث عن أرضية مشتركة

قد تؤدي “المشاركة الوجدانية الضيقة الأفق”، أي إبداء مزيد من اللطف والتعاطف تجاه الأشخاص “المقرَّبين لنا” الذين يشبهوننا ونشبههم، إلى تقليل رصيدنا من السلوك التعاطفي بشكل عام؛ لأن المطاف سينتهي بنا عندئذٍ إلى معاملة الآخرين (أو ما يسميه الباحثون “المجموعة غير المقرَّبة”) بشكل أسوأ بعض الشيء، كما أنها ستضيِّع علينا الكثير من الفرص لتقديم يد المساعدة والخدمة (فكّر في فرص المشاركة الوجدانية التسع التي تُتاح لك يومياً). فحاول الخروج عن مسارك التقليدي لإظهار التعاطف مع زملائك خارج دائرتك الاجتماعية المباشرة، وتوسيع نطاق “مجموعتك المقرَّبة” قدر الإمكان. فنحن جميعاً في الفريق نفسه عندما نكون في العمل.

احتفل بالتعاطف

احتفل بالتعاطف في مؤسستك. عندما يذهب الموظف “إلى أبعد الحدود” لمساعدة زميل آخر، أخبر الجميع بذلك. فقد أثبتت الأبحاث أن وجود نافذة تتيح رؤية الأعمال الخيرية التي يقدّمها الأفراد بوضوح سيساعدنا على إدراك أن الآخرين بشكل عام أكثر تعاطفاً مما نتصوّر، وهو ما سيلهمنا ويخلق فينا رغبة قوية لأن نحذو حذوهم.

ترفّع

الترفّع هو حالة الارتقاء العاطفي التي نشعر بها عندما نشهد لشخص آخر بامتلاكه القدرة على التعاطف أو تفوقه الأخلاقي أو أعماله البطولية. ويحفزنا الترفّع على أن نكون نحن أنفسنا أكثر تعاطفاً وإيثاراً. لكنه سلوك يسير في كلا الاتجاهين؛ ولا يتطلب الأمر سوى شخص واحد “أناني” في الغرفة لجر الباقين إلى سلوكه السام. وتؤكد الأبحاث أن كلاً من التعاطف والفظاظة مُعديان. لذا ضع في اعتبارك أن سلوكك، وتحديداً تعاطفك (أو عدم تعاطفك)، له تأثير مباشر على الآخرين.

اعرف مواطن قوتك

ربما سألت (أو سُئلت) في مقابلة شخصية: “ما أهم مواطن قوتك؟”. تخيل لو كان التعاطف هو أهم مواطن قوتك. كيف ستبدو حياتك المهنية؟ وكيف ستبدو حياتك الشخصية؟ إذا كنت تعتقد أن هذه الخصلة غير متوافرة لديك، فلا تقسُ على نفسك أو ترفض الفكرة برمتها. وضع في ذهنك ما يلي: على عكس الاعتقاد الشائع، فقد أثبتت الأبحاث المكثفة أن التغيير ممكن. ولحسن الحظ، فإننا جميعاً نمتلك القدرة على تحسين مستوانا في التعاطف مع الآخرين إذا حافظنا على عقلية النمو وأصررنا على تحسين مستوانا فيه. ونحن جميعاً في طور الإنجاز والتقدم، ولكن إذا اعتقدنا أنه يمكننا تحسين مستوانا في المشاركة الوجدانية والتعاطف، فسنحقق هذه الغاية.

إذا أردنا استبقاء المواهب وتحسين مستوى الأداء المؤسسي، وبخاصة في الأوقات الصعبة، فيجب على المدراء إدراك أن التعاطف ليس مجرد صفة “ثانوية” قد يكون من المستحسن أن نمتلكها، ولكنها مهارة قائمة على الأدلة وتشكّل جزءاً لا يتجزأ من القيادة الفعَّالة للفرق وتوطيد أواصر العلاقات فيما بين أفرادها. ولا يقتصر التعاطف على فن القيادة؛ فقد أثبتت الأبحاث المكثفة أن التعاطف ينتمي أيضاً إلى علم القدرات القيادية.