أحبّ عميلي بلال وظيفته، فقد كانت مهامه ممتعة، وتربطه مع زملائه في العمل علاقة جيدة، ويحصل على أجر جيد، لكن مشكلته الوحيدة هي ارتباطه العاطفي المبالغ فيه بعمله، ما أثّر على قدرته على اتخاذ القرارات وعلى رفاهته. فمرة بعد ظهر الجمعة، دعاه مديره فجأة إلى اجتماع لمناقشة مشروع تأخر في تسليمه، وعلى الرغم من أن العديد من أسباب التأخر في التسليم كانت خارجة عن إرادته، شعر بالضغط الشديد عند إدراكه ضرورة تنظيم جدول مواعيده، وعمل طوال عطلة نهاية الأسبوع لإتمام المشروع، مضحياً بموعد نومه والوقت المخصص لأسرته.

وهذا الموقف ليس غريباً عن المهنيين ذوي الأداء العالي، لأن الارتباط العاطفي بالعمل هو سيف ذو حدين، فالدافع والشغف يحفزانك للعمل من جهة، كما أن الاهتمام الدقيق بأدائك يمنحك الرضا والهدف، لكن الارتباط العاطفي الزائد قد يُشكّل عبئاً يُضنيك.

ويزداد ذلك صعوبة في عصر العمل عن بُعد الذي يصعب فيه الفصل بين الحياة الشخصية والمهنية، ولا عجب إذاً أن نربط هوياتنا الشخصية بوظائفنا. وعلى الرغم من أن بذل الجهد والتضحية لمساعدة المؤسسة على تحقيق النجاح هو أمر محمود، تبرز المشكلات عندما يتحكم عملك في مشاعرك وأفعالك.

كيف يمكنك معرفة ما إذا كنت مرتبطاً عاطفياً بعملك إذاً؟ ابحث عن هذه العلامات التي تدل على أن الوقت حان للتفكير في أفعالك:

أخذ النقد على محمل شخصي

لعلّك لاحظت أنك تشعر بالغضب أو عدم الأمان أو الإحباط بعد تلقّي تقييمات سيئة، أو تشعر بالتهميش لعدة أيام بعد تلقيك تعليقاً سلبياً من مديرك، أو لعلك تنشغل كثيراً بآراء الآخرين بحيث تتجنب التواصل معهم تماماً. وقد تشعر عندما ينتقد شخص ما عملك أن انتقاده يمثّل تأكيداً على أسوأ مخاوفك الذي يهمس في أذنيك قائلاً: عملك ليس جيداً بما يكفي.

لكن قبل أن تقفز إلى الاستنتاجات، افصل النقد الموجه لعملك عن النقد الموجّه لشخصك. جرّب هذا التمرين لتستوعب آراء الآخرين بموضوعية: ارسم 4 أعمدة على ورقة، واكتب أولاً ما قيل بالضبط، ثم اكتب رأيك بالتعليقات التي تشعر أنها خاطئة، كعدم الدقة والنقاط المُبهمة. ثم انتقل إلى العمود الثالث وفكّر في مجالات التحسين، هل لديك فكرة يمكن أن تحسّن أداءك أو مهاراتك مثلاً؟ أخيراً، حدد الإجراءات التي تنوي اتخاذها والتزم بأدائها، كإجراء محادثة متابعة لتوضيح بعض الأفكار أو تصحيحها أو تجاهلها ببساطة.

مواصلة العمل من المنزل

قد يؤدي الارتباط العاطفي الزائد بالعمل إلى تزايد إحساسك بالحاجة إلى التعويض، بمعنى أن تعمل أكثر لتزيد شعورك بالرضا عن نفسك، وأن تحقق إنجازات أكثر لتثبت مدى جدارتك وقدرتك على تقديم قيمة، وهو ما يتناقض مع ضرورة أخذ قسط من الراحة. وقد تواجه صعوبة في “فصل” نفسك عن العمل نهاية اليوم أيضاً، ما يفسح المجال للمهام بالتسلل إلى وقتك الشخصي وإلى عقلك، دون تلقي تعويضات مالية عن هذا العمل الإضافي حتى.

لكن إثبات التفاني من خلال “العمل المتواصل” يقوّض النجاح فقط. غيّر طريقة تفكيرك، واعتبر تخفيف ضغط العمل شرطاً أساسياً لتحقيق أداء جيد وليس مكافأة على الأداء. واحرص على وضع عادات لفصل نفسك عن العمل، مثل:

  • ضبط منبه يشير إلى وقت انتهاء العمل
  • إيقاف تشغيل أجهزتك تماماً حتى تتجنب إغراء تسجيل الدخول مرة أخرى.
  • كتابة قائمة مهامك لليوم التالي، أو اختيار طقوس انتقالية أخرى تسهّل التوقف عن العمل.

السعي إلى إرضاء الآخرين

إن إرضاء الآخرين يعني تقديم احتياجاتهم على احتياجاتك. قد ينتابك إحساس كبير بالمسؤولية لتكون البطل الذي يُصلح المواقف ويحل المشكلات، وقد يتجلى إرضاء الآخرين أيضاً في إبداء التعاطف، أو تغيير آرائك في محاولة للحفاظ على السلام، أو تجنب طلب المساعدة لأنها قد تجعلك تبدو ضعيفاً أو غير كفء.

وقد تعتقد أنك شخص مفيد نظراً لتواضعك وسعيك إلى إرضاء الآخرين، لكن ليس إذا كان ذلك على حساب صحتك النفسية وجودة علاقاتك، إذ سيصبح نهجك غير صحي حينها، ولن يتيح لمن تعمل معهم أخذ زمام المبادرة وتحمّل المسؤولية.

ويُعد الوعي الذاتي الخطوة الأولى لإحداث التغيير. هل تجد نفسك تتحمل أكثر من حصتك العادلة من عبء العمل أو المسؤولية في مشروع أو علاقة ما؟ ابحث عن الأسباب التي تجعلك تشعر بالاستياء، كالعمل الإضافي أو الشعور بعدم التقدير أو عدم الاعتراف بالجهود، فالاستياء إشارة عاطفية قوية على أنك تقمع احتياجاتك، وقد يوجهك إلى المواقف التي تحتاج إلى معالجة.

ربط الهوية بالمسمى الوظيفي

إذا لم يكن لديك أي مفهوم عن ذاتك بخلاف ما تفعله لكسب لقمة العيش، فعليك تغيير أفكارك على الفور، إذ قد تنتابك حالة دائمة من الخوف من فقدان وظيفتك لأن إحساسك الكامل بتقدير الذات مرهون بعملك. كما أن انخفاض تعقيد الذات أو ربط الهوية بجانب واحد فقط يؤدي إلى زيادة ردود الفعل العاطفية وخفض القدرة على تحمّل التوتر.

يمكن لخلق مسافة نفسية عن العمل أن تعزز رفاهتك، لكن لا يعني ذلك أن تتجه إلى الاستقالة الصامتة أو الانفصال النفسي عن العمل، بل يعني أنك تفصل بين هويتك وعملك. اسأل نفسك: “من أنا بالنسبة للأشخاص الذين أهتم بهم بخلاف عملي قائداً أو مديراً لهم؟” مارس الهوايات التي تستمتع بها لتعزز شعورك بالإتقان والكفاءة خارج نطاق عملك. على سبيل المثال، مارس أحد عملائي هواية تنسيق الزهور باعتبارها منفذاً إبداعياً بعد فترة الاحتراق الوظيفي العصيبة التي قضاها. وبدأ آخر دراسة فيزياء الفضاء، بينما قرر ثالث التطوع في ملجأ حيوانات محلي. وعززت كل من هذه الأنشطة إحساسهم بالذات وهوياتهم الشخصية وفصلتها عن وظائفهم.

تذكّر أن وظيفتك هي رسالة تؤديها لكنها لا تمثّل هويتك.