تقرير خاص

كيف تسهم الأتمتة في تغيير شكل القطاع الصناعي في المملكة العربية السعودية؟

7 دقائق
القطاع الصناعي
shutterstock.com/Blue Planet Studio
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

مرّ قطاع الأعمال و”القطاع الصناعي” بمرحلة صعبة للغاية في العامين الأخيرين، جراء جائحة “كوفيد-19” التي باغتت اقتصادات العالم. وفي حين توقفت شركات بأكملها عن العمل، فإن شركات أخرى استطاعت تجاوز الأزمة وكأنها لم تحدث، بل تمكنت من الوصول إلى مراكز متقدمة في السباق التنافسي. وهذا ما يفسره أندرو غروف، الرئيس التنفيذي السابق لشركة “إنتل” حينما قال: “الشركات الضعيفة تدمرها الأزمات، والشركات القوية تتجاوز هذه الأزمات، أما الشركات الرائعة فتستفيد منها”.

مثلت “الأتمتة” أحد أهم أسرار هذه الشركات الرائعة، ومفتاح استمراريتها، سواء من تبنوها مبكراً قبل الجائحة، أو من رأوا فيها فرصةً لتجاوز هذه المحنة العالمية، حيث أظهرت دراسة تحليلية حديثة أن البلدان التي اعتمدت على الأتمتة كانت أفضل جاهزية للتعامل مع أزمة الركود الاقتصادي جراء الجائحة. وتوضح الدراسة أن الولايات المتحدة الأميركية كان باستطاعتها أن تشهد انكماشاً أقل في الناتج المحلي الإجمالي بقيمة تتراوح بين 105 و212 مليار دولار في عام 2020 لو كانت تتمتع بمستوى الأتمتة الذي تمتعت به دولة مثل سنغافورة في أثناء الجائحة.

ولكن الاتجاه نحو الأتمتة في القطاع الصناعي لم يرتبط فقط بجائحة كورونا، وإن كانت الأزمة قد أظهرت مدى الحاجة الملحة لها، وإنما نما سوق الأتمتة الصناعية خلال العقدين الأخيرين، بعدما أحدثت الثورة الصناعية الرابعة تغيرات جذرية أعادت تشكيل بيئات العمل وطبيعتها على نحو استحال توقعه. لذا، تسعى الحكومات والشركات للاستفادة من الأتمتة لتحفيز الكفاءات الجديدة، وتقليل التكلفة، وزيادة الإنتاجية.

توصل بحث حديث، أجري في الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، إلى أن الشركات التي استثمرت في تكنولوجيات الأتمتة شهدت زيادات في الإيرادات بنسبة 5 إلى 7%، ونمواً في عدد الوظائف بنسبة 4 إلى 7%، وزيادة في الإنتاجية وصلت إلى 15%.

على مستوى البلدان العربية، وضع برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجيستية (ندلب)، أحد أكبر برامج رؤية 2030 في المملكة العربية السعودية، أكثر من 300 مبادرة تهدف إلى تمكين استثمارات القطاع الخاص لتبلغ 1.4 ترليون ريال بحلول عام 2030، ومن أهم هذه المبادرات، تلك التي تسعى إلى تمكين الصناعيين من الوصول إلى مستوى عالٍ من تبني لتقنيات الأتمتة والثورة الصناعية الرابعة.

الصندوق الصناعي، الذي دعم رحلة القطاع الصناعي في السعودية على مدار 48 عاماً من الناحية المالية والاستشارية والتدريبية، أخذ على عاتقه أيضاً تحفيز الصناعة السعودية على الاستثمار في الأتمتة، خاصة وأنه الممكّن المالي الرئيس لبرنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية “ندلب”. فوضع مشروعات القطاع الصناعي الخاص التي تتبنى الأتمتة على قائمة أولوياته في دعم الصناعة السعودية. إذ أطلق في عام 2019 عدة برامج مالية وخدمات استشارية لجذب قادة الأعمال للاستثمار في الأتمتة، مثل برنامج “تنافسية” الذي يقدم حلولاً تمويلية تدعم تحسين كفاءة الطاقة من ناحية، وتوظف أحدث التكنولوجيات لرفع كفاءة العمليات من ناحية أخرى. كما رصد الصندوق 3 مليارات ريال سعودي لتحويل 100 مصنع إلى الاعتماد على تكنولوجيات الثورة الصناعية الرابعة، بالتعاون مع الهيئة السعودية للمدن الصناعية ومناطق التقنية “مدن” ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، لتكون لبنة التغيير والتطوير للمصانع السعودية.

تبني الأتمتة سبيل أساسي للبقاء

في الوقت الذي ما زالت العديد من الشركات تنظر إلى الأتمتة كفرصة محتملة للنمو في المستقبل، كانت الشركات الرابحة ترى فيها سبيلاً لا غنى عنه للبقاء في السوق. ولنأخذ شركة “اتحاد الخليج للأغذية“، أحد عملاء الصندوق الصناعي مثالاً لتلك العقلية. شركة “اتحاد الخليج للأغذية” من شركات المنتجات الغذائية الكبرى في السوق السعودي، ويجمعها بالصندوق علاقة منذ أكثر من 23 عاماً، حينما دعم الأخير المصنع بالتكلفة التشغيلية وخطوط الإنتاج الأولى. وعلى مدار 15 عاماً، استمر المصنع بتحقيق النمو بمعدل 30% سنوياً، ما قاد الشركة إلى إضافة نحو 15 خط إنتاج.

ولكن منذ عام 2015، واجهت الشركة تحدياً صعباً حينما توقف هذا النمو تماماً، بل وأخذت الشركة بالتراجع بسبب التغيرات السياسية في المناطق المجاورة وهي مناطق التصدير من ناحية، وتغير السوق المحلي من ناحية أخرى، ما أدى إلى ضعف الطلب في السوق. وهنا وقف قادة الشركة في مفترق طرق، إما أن يستمروا في طريقة الإدارة القديمة والتي اتبعتها الكثير من الشركات التي لم نعد نسمع عنها الآن، أو اكتساب بعض المرونة للحاق بركب الثورة الصناعية الرابعة وتبني الأتمتة. وقد اتخذ القادة الطريق الثاني واستفادوا من برنامج “تنافسية” الذي مكّن شركة “اتحاد الخليج للأغذية” من استعادة مكانتها في السوق السعودي. وعلى الرغم من أن الشركة ما زالت في غمار تحولها للأتمتة، فإن القادة لاحظوا كيف ساهمت الأتمتة في انخفاض التكاليف، وارتفاع الإنتاجية، وتحسين الأداء.

مصنع فافا لملصقات التغليف، التابع لمجموعة سلمان التي تمتد علاقتها بالصندوق لأكثر من 30 عاماً، له تجربة مميزة أيضاً مع تبني الأتمتة، خاصة أنه كان أول عميل للصندوق الصناعي يستفيد من برنامج “تنافسية”، بعدما وقع اتفاقية بقيمة 10.7 مليون ريال سعودي بهدف رفع القدرة التنافسية للمصنع من خلال تقليل عدد العاملين في خطوط التشغيل باستخدام أحدث آليات الأتمتة. وبالفعل مكّن تمويل الصندوق للمصنع في مسار التحول الرقمي من رفع قدرات البيع لديه بنسبة 40% إلى جانب تخفيض عدد العمالة بنسبة 25%، ما مكن المصنع من المنافسة بشكل أفضل.

شركة “سديرفارما” عميل آخر للصندوق الصناعي تبنت الأتمتة لتصنع قفزة نوعية في مجال الصناعات الدوائية بالمملكة. وقد استفادت الشركة من دعم الصندوق في عام 2015 في تجهيز وتأسيس مصنع أدوية موجهة لمعالجة السرطان في مدينة سدير الصناعية، بالإضافة إلى تدريب الكوادر الوطنية وتأهيلها ضمن التدريبات التي يوفرها الصندوق لعملائه.

قطاع الصناعات الدوائية من أكثر القطاعات التي تأثرت بالأتمتة. إذ سعت الهيئة العامة للغذاء والدواء في المملكة إلى تبني الأتمتة والاستفادة منها في تتبع وتعقب جميع الأدوية البشرية المصنعة داخل المملكة أو المستوردة من خارجها من خلال نظام التتبع الإلكتروني “رصد“. فيساهم في تعزيز الرقابة والتأكد من سلامة الأدوية، من خلال معرفة مصدرها والمراحل التي مرت بها من التصنيع وحتى وصولها للمستهلك.

ولا تزال تجربة شركة “سديرفارما” أيضاً سارية، إذ يسعى القادة لأتمتة جميع مراحل التصنيع في “سديرفارما” وتهيئة جميع الأقسام لتصبح قابلة للتكيف والمرونة عند الحاجة لأي تغييرات بشكل سريع.

كيف رفعت الأتمتة مستوى الإنتاجية في القطاع الصناعي؟

أعادت الأتمتة بمفهومها الحديث تشكيل ملامح جميع القطاعات، إذ لم يعد عمل الروبوتات قاصراً فقط على إنجاز المهام البدنية والروتينية بشكل أفضل وأرخص من البشر فحسب، وإنما صارت قادرة بشكل متزايد على إنجاز الأنشطة التي تتضمن القدرات المعرفية التي كان يُنظر إليها في السابق على أنه من الصعب أتمتتها. لذا تسعى الشركات والحكومات بشكل متزايد إلى الاعتماد على الأتمتة لزيادة إنتاجيتهم، إذ يُقدر تقرير لشركة “ماكنزي آند كومباني” أن الأتمتة يمكن أن تزيد من نمو الإنتاجية على مستوى العالم بنسبة 0.8 إلى 1.4% سنوياً.

ووجد التقرير الصادر عام 2017 أن ما يقرب من نصف الأنشطة التي يتقاضى الأشخاص أجوراً مقابل القيام بها- نحو 16 تريليون دولار أميركي- يمكن أتمتتها، ما يتيح للبشر توفير وقتهم للمزيد من المهام ذات المستوى الفكري الأعلى. وصرح 53% من الموظفين أنه يمكنهم توفير ما يصل إلى ساعتين من العمل يومياً (240 ساعة في السنة) من خلال الأتمتة، بينما أفاد 78% من قادة الأعمال أن الأتمتة يمكنها توفير ما يصل إلى 3 ساعات عمل في اليوم (360 ساعة في السنة)، وذلك خلال دراسة أجرتها شركة “وورك ماركت” (WorkMarket) خلال عام 2020، شمل 200 شخص من قادة الأعمال و200 موظف في أربع صناعات رئيسية: الإعلام والنشر، والخدمات المالية والتأمين، والاتصالات، وتجارة التجزئة للشركات.

ورغم أن الأتمتة تثير المخاوف لدى الكثيرين بشأن إحلال الآلة محل البشر، فإن المنتدى الاقتصادي العالمي يُقدر أن عدد الوظائف الجديدة التي ستوفرها الأتمتة بحلول عام 2025 ستفوق الوظائف التي ستدمرها بفارق لا يقل عن 12 مليون وظيفة. لذا، فوفقاً لمقال بعنوان: “الثورة الصناعية الرابعة: لماذا نحن على شفا تحول مثير في عالم الأعمال؟“، فإن الأتمتة ستمثل تحولاً مثيراً سيمكّن الإنسانية من أن تكون أكثر إنتاجية وأكثر ابتكاراً في كيفية حل المشاكل والمقاربات المتبعة تجاه العمل.

وفي هذا الشأن علق الأستاذ عبدالعزيز بن عبدالله الزيد، مستشار الرئيس التنفيذي والمسؤول عن المنظمات الدولية، بقوله أن الصندوق وبصفته عضواً في المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF)، فقد قام بإطلاق منصة الصناعة المتقدمة “AMHUB” في المملكة، بالتعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي، سعياً لمساعدة المصانع المحلية للبحث عن حلول لرفع الكفاءة التشغيلية عن طريق حلول الأتمتة وتبني تقنيات الثورة الصناعية الرابعة. تعد هذه المنصة الثالثة عشر من ضمن المنصات الموجودة حول العالم، وتهدف المنصة إلى تبادل الخبرات ونقل أفضل الممارسات بين المنصات والمساعدة في تأهيل المنظومة الصناعية لتطوير آليات الصناعة ومواكبة آخر ما توصلت إليه التقنيات في الصناعات المتقدمة، إضافة إلى خلق شراكات جديدة وإيجاد خط تواصل مباشر بين منصات الصناعة المتقدمة العالمية المتواجدة تحت مظلة المنتدى الاقتصادي العالمي.

لذا، يتوقع بحث حديث أن يشهد سوق الأتمتة الصناعية في المملكة العربية السعودية نمواً سنوياً بنسبة 4.1% خلال الفترة من 2020 إلى 2026، خاصة مع رؤية المملكة التي تولي اهتماماً بإدخال تقنيات الأتمتة في التصنيع. فعلى سبيل المثال، أعلنت وزارة الصناعة والثروة المعدنية خطتها لتحويل 4,000 مصنع من الاعتماد الكثيف على العمالة الوافدة إلى الأتمتة الرقمية خلال 5 سنوات، والتي ستمهد لوظائف مستقبلية قائمة على تبني الأفكار الإبداعية والتكنولوجية الحديثة، وفقاً لتصريحات وزير الصناعة السعودية بندر الخريف.

كيف أثرت رحلة التحول الرقمي في أداء الصندوق الصناعي نفسه؟

يوضح محمد بن عبدالله  الجاسر، نائب الرئيس التنفيذي للقانونية والحوكمة والالتزام، أثر رحلة التحول الرقمي على الصندوق قائلاً إن الصندوق الصناعي مر برحلة مبكرة للتحول الرقمي بدأت منذ العام 2018 أسهمت في ارتفاع عدد التمويلات المعتمدة بنسبة 38%، وضاعفت الاستجابة لمعالجة التمويل ودراسته لأكثر من ثلاث مرات، وقلصت مدة إجراءات الحصول على التمويل بنسبة 53%، لتنخفض من 11 شهراً إلى 5 أشهر فقط تماشياً مع المعايير العالمية، كما اختصرت إجراءات التوقيع السابقة التي كانت تتمثل في حضور العملاء من مختلف مناطق المملكة لمقر الصندوق لتوقيع العقود، وتوقيع الضمانات، ثم إجراء الرهون، من عدة أسابيع إلى دقائق معدودة، ودون حاجة العملاء إلى زيارة مقر الصندوق، حيث أصبح يتم اعتماد العقود إلكترونياً. وأشار إلى نجاح الصندوق في تمكين عملائه من توقيع الضمانات (السندات لأمر)، وإجراء الرهون وفكّها بشكل إلكتروني أيضاً، ليصبح الصندوق بذلك أول جهة في المملكة تجري عملية الرهون، والسندات لأمر بشكل إلكتروني، وقد نجح الصندوق في ذلك بالتعاون مع عدد من الجهات الحكومية مثل وزارة التجارة ومنصة “أبشر“، ووزارة العدل ومنصة “نافذ” وشركة “تكامل”، الأمر الذي مكن الصندوق الصناعي من توقيع أكثر من 2,600 عقد ووثيقة الكترونية والحصول على نسبة 100% في مؤشر مستوى نضج تحول الخدمات الحكومية الرئيسة إلكترونياً.

الأتمتة ترفع جاهزية المؤسسات للتعامل مع الأزمات

تطبيق المؤسسات الحكومية والشركات للأتمتة يمنحها جاهزية أفضل للتعامل مع الاضطرابات الاقتصادية العالمية، مثل الركود أو جائحة كورونا. وهذا ما حدث مع وزارة الصناعة والثروة المعدنية في المملكة العربية السعودية حين دشنت منصة “ابتداء” سعياً منها إلى تسهيل رحلة المستثمرين مقدمين تجربة أكثر سهولة وملائمة جامعة للمستثمرين وأصحاب الأعمال. وينصب ذلك الجهد نحو أتمتة الكثير من العمليات والتي تسهم بشكل مباشر في رفع جودة الخدمات وتطويرها بالتوافق مع توجهات المملكة المتبنية لمفهوم التحول الرقمي الضامن لاستمرارية الأعمال ووضوحها للمستثمرين وأصحاب الأعمال عموماً. لم تعد الأتمتة سبيلاً اختيارياً يمكن للشركات التردد بشأن تبنيه، وإنما نهج أساسي للحكومات والشركات لاكتساب ميزة تنافسية مستدامة. وإن كانت بعض الشركات ما زالت مترددة بشأن التوقيت اللازم لتبنيها والاعتماد عليها، فقد أثبتت الجائحة أن ما توقع البشر الوصول إليه في سنوات، أصبح أمراً واقعاً لا غنى عنه في شهور قليلة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .