اجتاحت موجة عدم التنويع الاستثماري الشركات الأميركية أواخر ثمانينيات القرن الماضي، على أساس أن تكتلات الشركات والشركات الشديدة التنوع سيصبح أداؤها أفضل عند تركيزها على أعمالها الأساسية.

وجلب هذا التحوّل الاستراتيجي فوائد في البداية: إذ توصّل البحث الأكاديمي الذي أُجري آنذاك إلى أن إعادة التركيز تلك كانت مفيدة للشركات بشكل عام. وكان التفسير المنطقي لذلك النهج واضحاً تماماً: وهو أن المستثمرين في الاقتصادات المتقدمة التي تضم أسواقاً مالية عالية الكفاءة ليسوا بحاجة إلى الشركات لتنويع المخاطر، لأنهم قادرون على التنويع بسهولة وكفاءة أكبر بأنفسهم. وهذا صحيح بالطبع، بمعنى أنه يمكن للمستثمرين إنشاء محافظهم الاستثمارية وتصفية مواردهم المالية وإعادة توزيعها حسب رغباتهم.

لكن مع الوقت، بدأ نهج إعادة التركيز الذي تتبنّاه الشركات الكبرى يكشف عن بدعة إدارية ضارة: وهو انخراط الشركات في نهج إعادة التركيز كتقليد أعمى. وما زاد الضغط على ضرورة تبنّي نهج إعادة التركيز هو حقيقة أن تحليل شركات الأعمال الفردية وتقييمها كان أسهل للمحللين مقارنة بالشركات المتنوعة.

هل حان الوقت لإعادة التفكير في نهج التنويع الاستثماري؟

تكمن المشكلة في أن إلغاء التنويع الاستثماري قد امتد إلى الشركات المركزة بالفعل، من وجهة نظر استراتيجية، على الرغم من تبنّيها خطوط أعمال مختلفة أحياناً. على سبيل المثال، تخصّصت شركة فيليبس الهولندية العملاقة للإلكترونيات في أنشطة تجارية مثل التلفزيونات والأجهزة الصوتية والإلكترونيات الاستهلاكية والإضاءة والتكنولوجيا الطبية وأشباه الموصلات وآلات طباعة أشباه الموصلات، وهي محفظة استثمارية متنوعة من الأعمال التجارية بالتأكيد لكنها مترابطة مع بعضها تحت مظلة الإلكترونيات، ومع ذلك، استشعرت الشركة الحاجة إلى إلغاء التنويع، وهي تركز في الوقت الحاضر على التكنولوجيا الصحية. وأصبح العديد من الشركات الأخرى شركات أعمال فردية بالفعل.

ويبدو أن المحللين والاستشاريين استهانوا بفكرة أن رأس المال ليس المورد الوحيد الذي يمكن إعادة توزيعه وإعادة تشكيله ضمن شركة متنوعة. ولطالما ناقش الأكاديميون في كليات إدارة الأعمال فكرة أن التنويع الاستثماري لا يقتصر على الحد من المخاطر فحسب: فالشركات تنوّع استثماراتها في أسواق جديدة من أجل استغلال الأصول أو الكفاءات غير المستغلة بالكامل من شركات أخرى بعيداً عن الأسواق المفتوحة.

وأظهرت البحوث حول “الفراغ المؤسسي” بالفعل كيفية الاستفادة من الموارد اللامادية،، مثل السمعة، واستغلالها ضمن حدود شركة كبرى متعددة الأقسام بدلاً من آليات السوق. ولذلك فوائد على الابتكار أيضاً، إذ يمكن للمدراء تحديد فرص الأعمال التجارية والاستفادة منها بشكل أسهل عندما تقع ضمن حدود شركة متنوعة مقارنة بفرص الأسواق المفتوحة. بعبارة أخرى، غالباً ما تواجه أسواق الأفكار والتكنولوجيا والموارد اللامادية الفشل، وقد تكون غير فعالة مقارنة بعمليات المشاركة والتنسيق التي تجري داخل أي مؤسسة، حتى لو كانت تتكون من أقسام متعددة ومستقلة.

لنتأمل مثال شركة يورونت (Euronet) (إفصاح: عمل أحدنا لصالح هذه الشركة). تضم الشركة ثلاثة أقسام: قسم تحويل الأموال الإلكترونية، الذي يركز على تشغيل أجهزة الصراف الآلي، وقسم الدفع الإلكتروني الذي يركز على توفير معاملات الدفع لتجار التجزئة، مثل رموز الدفع والقسائم والمحافظ الرقمية، وقسم تحويل الأموال الذي يتيح إجراء المدفوعات عبر الحدود. تعمل هذه الأقسام الثلاثة بشكل مستقل وقد امتنعت إدارة الشركة العليا بالفعل عن صياغة بيان استراتيجية مشترك أو إصداره.

ومع ذلك، شهد قطاع تحويل الأموال الدولية تغيراً هائلاً على مدار السنوات الماضية، مع توقع بحدوث تغييرات إضافية: استقطاب المنافسين والتطبيقات الجديدة متمثّلة في شركات مثل وايز (Wise) وأو إف إكس (OFX) ومونيكورب (Moneycorp) عدداً كبيراً من الزبائن إلى منصاتها سهلة الاستخدام؛ وتزايد استخدام العملات المشفرة في التحويلات المالية الدولية من نظير إلى نظير؛ وارتفاع استخدام المدفوعات الإلكترونية بشكل كبير، لا سيّما في الاقتصادات الناشئة.

ومع ذلك، تمكنت شركة تحويل الأموال، يورونت، من الابتكار والاستجابة لهذه التغييرات بطرق فعالة بالاستفادة من إمكانيات قسمي التحويل الإلكتروني والدفع الإلكتروني ومواردهما. وأطلقت مؤخراً منصة جديدة تدعى دانديلاين Dandelion التي لا تقتصر أعمالها على تحويل الأموال إلى الخارج (كما تفعل الجهات الفاعلة الأخرى في القطاع)، وإنما على تحويلها في الوقت الحقيقي لأنها تستخدم شبكة قسم التحويل الإلكتروني وإطار عمله التنظيمي، بما في ذلك عمليات الائتمان والخصم والتسليم النقدي. علاوة على ذلك، تمنح شركة يورونت الزبائن فرصة ربط منصة دانديلاين بمحافظهم الرقمية بشكل مباشر وإجراء المدفوعات وتعبئة رصيد هواتفهم المحمولة ودفع الفواتير من خلال دمج المنصة بتكنولوجيا قسم الدفع الإلكتروني ومنتجاته.

وما أتاح للشركة الاستجابة بنجاح للتغييرات المهمة التي تحدث في قطاعها هو قدرتها على توحيد جهود الموظفين والتكنولوجيا في أقسام مختلفة من الشركة إضافة إلى قدرتها على الابتكار. ومن المؤكد أن إجراء مثل هذا التحوّل وإعادة تجميع المعارف سيكون مستحيلاً لو قُسّمت الأقسام الثلاثة إلى شركات مستقلة.

وبالمثل، قبل أن تنفصل شركة فيليبس عن معظم أقسامها للتركيز على التكنولوجيا الصحية وحدها، كانت قد طورت العديد من الابتكارات الثورية من خلال الدمج بين المعارف والتكنولوجيا في أقسامها المختلفة. على سبيل المثال، يعود فضل ابتكار تقنية “التجربة المحيطية” التي تُطوّر الآن في قسم التكنولوجيا الصحية إلى قسم الإضاءة (المنفصل الآن) والتي أدت إلى انخفاض كبير جداً في نسب القلق لدى المرضى (وبالتالي إلى انخفاض بنسبة 80% في استخدام المهدئات وتقليل الحاجة إلى إعادة الفحص بنسبة 70%). وبالمثل، يعود فضل ابتكار التقنية المحيطية في قسم التلفزيون (الذي باعته الآن) إلى قسم الإضاءة أيضاً، وهي ابتكار مهم ومميز في السوق المُسلَّعة. علاوة على ذلك، يعتمد تطوير التكنولوجيا اللازمة لوظائف المراقبة في نطاق المراقبة الصحية التي توفّر أجهزة يمكن ارتداؤها للمستهلكين على مطوري البرمجيات والمعرفة المكتسبة من قسمها المخصص للتكنولوجيا الصحية الذي يركز على التعامل التجاري بين الشركات.

ولا يقتصر اعتماد شركة فيلبيس على التكنولوجيا فحسب، حيث اكتشفت أن علامتها التجارية ومكانتها في القطاع المهني عززت صورة منتجاتها وسمعتها في قسم المنتجات الاستهلاكية (الذي باعته جزئياً الآن).

وتُظهر أمثلة يورونت وفيليبس أن وجود العديد من خطوط الأعمال، حتى عندما تكون مستقلة، يخلق خيارات ممتازة لإعادة توزيع الموارد غير المالية بسرعة عند تغير الظروف، أو إعادة دمجها للتوصّل إلى حلول مبتكرة جديدة.

ويُعد وجود خيارات الأعمال أمراً مهماً في حالات عدم اليقين، لكن غيابها ومحاولة ابتكارها هو أمر يصعب على السوق أو المستثمرين الأفراد تحقيقه بسهولة. ولا يمكننا أن نتوقع أن تملأ الشركات الناشئة ووحدات المشاريع الاستثمارية هذا الفراغ، ولا يمكن للشركات الناشئة الاستفادة بسهولة من التكنولوجيات الحالية ومصادر المعرفة الموجودة لدى الشركات الأخرى، من جهة أخرى،فغالباً ما تواجه وحدات الاستطلاع والمشاريع الاستثمارية في الشركات صعوبات في تطبيق التكنولوجيات الخارجية التي استثمرت أموالها فيها. وبالتالي، أدى التخصص المفرط للشركات إلى انخفاض حاد في قدراتها على إجراء التغييرات والتكيّف، وهو أمر يمكن تعويضه من خلال امتلاك مجموعة من الشركات، كما أن الإصرار على التخصص أمر سيئ، وذلك لأن التغييرات في البيئة الخارجية أبرزت الحاجة إلى التنويع الاستثماري وبيّنت أهميته.

دور التكنولوجيا الرقمية في تعزيز أهمية التنويع الاستثماري

هناك عواقب للتنويع الاستثماري ولإدارة شركة متنوعة بالطبع: فإذا كانت الشركة تسعى إلى استغلال مورد السمعة، فعليها أيضاً اكتساب الموارد التكميلية اللازمة لتشغيل خط العمل الجديد، بما فيها التكنولوجيا أو العمالة أو سلاسل التوريد الجديدة، وعليها بعد ذلك تشغيل مكتب رئيسي يُشرف على كل هذه الخبرات.

لكن هذه التكاليف تناقصت خلال العقد الماضي، لا سيما بسبب الاستخدام المتزايد للشراكات وأنظمة بيئات الأعمال للمساعدة في تنفيذ استراتيجية التنويع الاستثماري. على سبيل المثال، يمكن لشركة فودافون تنويع أعمالها لتشمل الخدمات المصرفية من أجل استغلال إمكاناتها في الهواتف المحمولة دون الحاجة إلى ابتكار منتجات مصرفية بنفسها لأنها تعمل مع كوكبة من الشركاء. وقد كان خيار العمل مع شركات أخرى متاحاً في الماضي بالطبع، لكن التنسيق مع المؤسسات الأخرى أصبح أسهل وأكثر انتشاراً بسبب التكنولوجيا الرقمية، ما أدى إلى زيادة في تكنولوجيا التواصل ومعايير التكنولوجيا وغير ذلك.

وعلى الرغم من أن الرقمنة قلّلت من تكاليف التنويع الاستثماري، يبدو أنها زادت من فوائده في الوقت نفسه، لا سيّما من خلال الأهمية المتزايدة للبيانات باعتبارها مورداً استراتيجياً. وبشكل عام، يصبح استغلال الموارد غير المستغلة بالكامل أكثر صعوبة كلما ابتعدت الشركة عن أعمالها الأساسية، وينطبق ذلك على الموارد المادية أو المعرفة التكنولوجية، لكن قد تنطوي فوائد الموارد اللامالية، مثل السمعة، على آثار غير مباشرة محدودة أيضاً إذا نُشرت في قطاع مختلف تماماً عن قطاعها الأصلي.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن الاستفادة من البيانات في أعمال مختلفة تماماً عن مكان توليدها. على سبيل المثال، انتقلت شركة علي بابا بنجاح إلى قطاع الأفلام باستخدام البيانات السلوكية المتولّدة من منصتها المتخصصة في التجارة الإلكترونية. ويمكن لشركة آبل جمع البيانات السلوكية من مرتدي ساعة آبل وتحليلها واستخدامها لتطوير رؤى ثاقبة حول أنماط التغذية أو التسوق أو الترفيه أو الصحة.

خلاصة القول، عززت التكنولوجيا الرقمية نهج التنويع الاستثماري وساهمت في خفض تكاليفه وزيادة فوائده. وبالتالي، على الرغم من تبنّي الشركات نهج إلغاء التنويع الاستثماري على مدى العقد الماضي، فلا حجة لها في الإحجام عن التنويع اليوم.

بالغت العديد من الشركات خلال العقد الماضي في التخصص تحت ضغط من مجالس الإدارة والمحللين والاستشاريين. وعلى الرغم من أن إجراء تحليل على مجموعة الأعمال المبتكرة وتقييمها قد يكون صعباً بالفعل، علينا ألا ننسى أن التنويع الاستثماري يتيح خيارات للمستقبل تتمثّل في إعادة الدمج وتعزيز القدرة على التكيّف في أوقات الغموض. فقد أدى التخصص القسري للشركات على مدى العقود الماضية إلى حرمانها من قدرات مهمة بالفعل، ولعلّ أهمها أن تكون مرنة بما يكفي للتكيّف مع التغييرات غير المتوقعة، وهو ما أثّر على فرصها في النجاح والبقاء في النهاية.