قبل أيام أطلقت عائلة مؤسس آبل، الراحل ستيف جوبز، في إعلان مشترك مع رئيس آبل الحالي، تيم كوك، موقعاً إلكترونياً للكشف عن أرشيف جوبز. وقد كان في مقدمة المعلومات الجديدة التي كشفها هذا الأرشيف رسالة أرسلها جوبز لنفسه بالبريد الإلكتروني في عام 2010. وفي هذا الإيميل الذي أرسله ستيف جوبز قبل عام من وفاته، ذكر ما يلي:
"أزرع القليل من الطعام الذي أتناوله، وأنا لا أصنع هذه البذور التي أزرعها. أنا لا أصنع الثياب التي ألبسها. أنا أتحدث بلغة لم أبتكرها ولم أطورها. أعيش ضمن حرية لم أشرّع قوانينها ولم أساهم في تطبيقها. تؤثر فيّ موسيقى لم أساهم في ابتكارها. وعندما احتجت إلى الرعاية الطبية، لم يكن بيدي حيلة لمساعدة نفسي على النجاة. لم أبتكر الترانزستور والمعالجات الدقيقة ومعظم الأجهزة التكنولوجية التي أعمل معها. أحب وأقدر البشر جميعاً، الأحياء منهم والأموات، وأنا مدين لهم جميعاً بحياتي وعافيتي".
تذكرنا هذه الرسالة التي كتبها جوبز لنفسه وأرسلها إلى إيميله المهني ([email protected]) في حوالي الساعة الحادية عشرة مساء بلحظات الاعتراف الشخصي قبل نهاية وشيكة. وتبدو أنها لحظة صفاء كان جوبز المصاب بالسرطان يراجع فيها ما أنجز على الصعيد الشخصي، ويقف أمام لحظة الحقيقة التي يسميها علماء النفس "Dying Regrets" أي لحظات الندم على فراش الموت. وقد كانت الحقيقة التي اعترف بها جوبز في هذه اللحظات هي خلاف طبيعته التي عاشها طيلة حياته كرائد أعمال يوصف بالنرجسية والتسلط والغرور. وقد كتب عالم نفس المؤسسات، آدم غرانت، مقالاً عن عناد ستيف جوبز والطريقة التي تعامل معه فريقه بها، ليقنعوه بأفكارهم ومنها فكرة ابتكار هاتف آيفون. هذا هو ستيف جوبز يراجع في هذا الإيميل نفسه ويعزي الفضل للبشرية أحياء وأموات في أكله وشربه ولغته وحريته وصحته وإنجازاته التكنولوجية.
الحقيقة التي يقرها الكثيرون على فراش الموت، والتي مفادها التواضع والتعاطف مع من حولنا والشعور بالتقصير تجاه مجتمعنا وعائلاتنا، والإقرار بأهمية الجنس البشري أو الفريق الذي ساهم في صنع ما نحن عليه، هي مسألة تحتاج لأن نتذكرها على الدوام. فنحن نعلم أن ستيف جوبز هو الذي غير حياتنا بابتكار الهاتف الذكي لأول مرة، لكن لحظة الحقيقة التي قد لانعرفها إلاّ عندما يقف ستيف جوبز في لحظة صفاء ما قبل الموت، وهي أنه لم يكن موافقاً في البداية على فكرة الهاتف الذكي، واستغرق الأمر من فريق عمله سنوات ومراحل متعددة من الإقناع كما يذكر آدم غرانت في كتابه "فكر مرة أخرى" (Think Again). لكن ماذا نعلم عن صاحب الفكرة الأول الذي طرح الهواتف الذكية، أو أعضاء الفريق الذين كانوا مؤمنين بفكرتهم وأصروا على إقناع جوبز العنيد بالتنقيط؟
كان جوبز يراجع نفسه أحياناً حتى قبل أن يصاب بالسرطان، وكان يعترف بأصحاب الفضل من فريقه ومزودي الخدمة لشركته ولو بصعوبة. وقد كانت لديه قناعة يتذكرها كل صباح كما يقول، وهي مقولة قديمة سمعها عندما كان عمره 17 عاماً ومفادها بأنك "إذا عشت كل يوم من أيامك وكأنه آخر يوم في حياتك، فسيأتي يوم ويكون توقعك فيه صحيحاً" أي أنك ستموت فعلاً. ويقول جوبز بأنه بعد أن سمع هذه المقولة بات ينظر إلى نفسه كل يوم صباحاً في المرآة، ويسأل نفسه عن العمل الذي يود القيام به هذا اليوم: "إذا علمت أن اليوم هو آخر يوم في حياتي، فهل سأقوم بالعمل الذي أنوي القيام به اليوم؟". بقيت هذه المقولة هي البوصلة لحياة ستيف جوبز كما يقول. وأصبحت المبدأ الذي يقرر فيه جوبز كل يوم أهم ما يجب عمله وكأنه سيموت في نهاية اليوم. وهذا ما جعله ربما ينحاز بشكل أكبر للإنجاز ولسرعة الإنجاز، وهذا ربما فاقم مشكلته مع النرجسية والعناد، ولم يعترف بفضل الآخرين بكل صراحة إلا في لحظة صفاء وهو يصارع الموت قبيل منتصف الليل مع آلام السرطان.
يسعدنا أن يكون ستيف جوبز ملهم البشرية في الإبداع والابتكار، ونقر له بالفضل لابتكاراته التكنولوجية، ولكن علينا ألا ننسى نصيحته في هذا الإيميل قبل فوات الأوان.